القائمة الرئيسية

الصفحات

ثلاث قصائد بطول ندبة في الروح / عبد الرحيم طايع

 

ثلاث قصائد بطول ندبة في الروح 

عبد الرحيم طايع


 

 

(أحرزتُ هدفًا في مرماي!)

لـمهاجمي كرةٍ خائبين، وآخرين..



المهاجمون الذين يُضَيِّعُون الأهداف

على الدَّوام،

مهما تكن الفرص سهلة،

يستحقُّون سخريةً منهم أمام الجماهير

في قلبِ الإستادِ الذي فَشِل ركضُهم فيه

على الهَوَاءِ مباشرةً، وسط تشجيعٍ حارٍّ

للسُّاخرين وكلماتِهِم اللَّاذعة..

هؤلاء المهاجمون قتلةٌ محترفون واللهِ

قتلوا رجلًا جميلًا كبيرَ السِّنِّ أمام عينيَّ

رجلٌ يعشقُ الكرة كأنَّها ابنتُهُ الوحيدة!

التِّلفزيونُ كان على منضدةٍ أمام البيت

وأكياسُ اللُّبِّ والسُّودانيِّ وغَيْرِهِمَا

الرَّجل جالسٌ على كُرْسِيِّهِ المُتَحَرِّك

ببنطلون البيجامة الخفيف

والفانلَّة الدَّاخليَّة

يشاهد مباراةً صيفيَّةً مهمَّة

لفريقه الذي يحتاج إلى فوزٍ

يعوِّض ما فات

مررتُ عليه، بالصُّدفة، فحيَّيته

(أعرفه؛ فهو كان سِكْرِتَيرَ مدرستي الثَّانويَّة

قبل أن يبلغ سنَّ المعاش، واسمُهُ المِصْرِيُّ)

لم ينتبه لتحيَّتي لأنَّه مأخوذٌ

بأجواء الملعب السَّاخنة..

وبينما أنا عائدٌ من مشواري

سمعت صراخًا وأصوات نحيب

قال الخَلْقُ لي إنَّه سقط على الأرض، فجأة،

بلا أنفاس

وإنَّهم شمُّوا رائحةَ شِيَاطِ قلبه؛

لأنَّ المهاجم الذي كان يعوِّلُ عليه

أهدر جُمَلًا مضمونةً جَاءَتْهُ على طبقٍ من ذهب

كان الرَّجل المريض المنهك يركل الكرة معه

يحاول مساعدته من الخارج بجميع ما بقي لديه

من الصِّحَّة

يلعنه أحيانًا، لكنَّه يعود للإيمان بقدراته

والثَّناء عليه إذا صادف ومرَّر تمريرةً جيِّدة

أو استقبل تمريرةَ زميلِهِ بطريقةٍ تسُرُّ

ثُمَّ يَنْدِبُ حظَّ نفسه لو دنا هذا المهاجم

من حارس الخَصْمِ، وشَاطَ كرته، ولم يُصِب المرمى

يَرْثُو نصيب رُوحِه والألمُ يَتَسَلَّقُهُ كَاللَّبْلَابِ

كأنَّه خسر ابنتَهُ الوحيدة!

في النِّهاية نفد صبرُهُ لفرطِ فسادِ ما يراهُ

وقبل أن يسقط مَيْتًا همس لمن كانوا بجانبه:

كأنَّني أحرزتُ هدفًا في مرماي..

لا أحدَ اهتمَّ بتفسير ما كان يقصِدُه،

وقد تناقله النَّاس بِسَعَةٍ فيما بينهم،

غير أنَّ الجميع في البلدة سَخَطُوا

على المهاجم

اعتبروه نعشًا طُولُهُ الوطن

وعَرْضُهُ الوطن

ولم يبتغوا منه شيئا سوى أن يترك

فريقهم، ويرحل إلى آخر..

أن يترك اللُّعْبَةَ التي لا تطاوعه

ويترك النُّجوميَّةَ والأموالَ

فهو ليس جديرًا بهما

وقالوا، بوضوحٍ، كحانقين عليه:

لو كان إنسانًا ذا ضمير

فسيقدِّم نفسه للمحاكمة فورًا

بتهمة تخييب الآمال

لا بدَّ أن يفعل ذلك عاجلًا

قبل أن يُجَنَّ نصفُ شعبٍ بالتَّقريبِ

أرهقته الشَّكوى من الفقد والحسرة

ذهب شبابُهُ حيثما ذهب

وهلك رجالُهُ الكبارُ المتحمِّسون

هلكوا في أوقاتٍ كان يجب

أن يفرحوا فيها

ويرجعوا صغارًا آملين

.. يأكلونَ الخُبْزَ بالسِّمْسِمِ

(ذلك المَصْنُوعَ على هيئةِ الإِوَزِّ)

ويشربونَ المشاريبَ الحُلْوَةَ

لكنَّهم قُبِرُوا بسبب لاعبٍ كسيحٍ أعمى!


 

سلسةٌ، بعضُها من بعض

 

 

 (1)

الغزالةُ التي نَجَتْ من الفهد الصَّيَّاد

بقفزتين هائلتين

لن تنجوَ في المرَّة القادمة

سيقبِض رقبتها بأنيابه

ويسحق عظامها سحقًا

فلا تُفْرِحُك نجاتُها الأولى كأنَّك ساذج

(الأشياءُ المبدئيَّةُ لا يُعَوَّلُ عليها)

أو اقْلِب الموقفَ أحسنَ

كن مع "القوَّة الغاشمة" وأرح عواطفك!

(2)

الرَّجلُ المقيمُ في البلكونة المواجهة

لشُبَّاكِ غرفتك المكسور

الحائرُ بسيجارته

ذو الملابسِ الخفيفةِ في الشِّتاءِ

من يكلِّم نفسه بصوتٍ عالٍ أحيانًا

وكنت تسمِّيه بالمجنون

وجدوه تحت العِمَارة ذات صباح

مكوَّمًا كترابٍ مجموع

وجده زبَّال منطقته

وأخبر الشُّرطة والإسعاف على الفور

حينها خمَّن النَّاس

أنَّه حَسَبَ حِسْبَتَهُ جيِّدًا

فوجد الوحدة لا تفيد

وجدها كالجريمة بالضَّبط

(كانوا يعرفون أنَّه ارتبط بامرأةٍ

من قبلُ وانفصل

لأنَّه وجد الارتباط لا يفيد

وجده كالجريمة أيضًا)

ووصفوه بالعاقل لأنَّه انتحر!

(3)

هل أوحشتك "القاهرةُ" يا صعيديُّ؟

يبدو الأمر كذلك وحقِّ جلالِ اللهِ

لأنَّك تصحو من النَّوم دامعًا

كمن حَلَمَ بخلصائه الصَّعايدة

رآهم في المنام - بأسمائهم الجميلة - فتفاءل

لكنَّه - بعد أن صحا صحوته الكبرى

فاستفاق من نشوة ما رآه -

تذكَّر أنَّهم لا يزورونه ولا يبالون به؛

فانزوى في جنوبه القَصِيِّ

كمشهدٍ من فيلم "بيردي"

وقرَّر أن يعود إلى الشَّمال

إذا توفَّر مالٌ يستره هناك

على الأقلِّ لن يشعر بالغربة

(الغربةُ التي هي البقاءُ في المنشأ

من غير إحساسٍ بأيَّة مزايا)..

أمَّا العاصمة فمزدحمةٌ وضائعةٌ

لا يجافي المرءُ فيها الواقعَ

إذا أهمله الأوفياءُ والمخلصون!

(4)

قالت لجارتها الأقربِ

في مكتب وظيفتهما الحكوميَّة:

بَيِّنِي نهديك الرَّائعينِ؛

لِيَمِيزَكِ الرِّجالُ يا حبيبتي

أفادت جارتها بأنَّ لديها عشيقًا..

قالت الجارةُ بحسمٍ مّا:

قَصَدْتُ إثارة أجسادهم بلا نوال

لأنَّ أرواحنا تشتهي أرواحهم بلا جدوى

(المهمُّ، دَلَالُهُمَا كان صاخبًا ولا تباليان)!

(5)

صرخت فيهم السُّلْطَةُ المرتابةُ:

ليس لأنَّكم أكلتم أسماكًا مستوردةً

صرتم عالميِّين يا رعاعُ

وتجوبون عوالمَ المياهِ المالحة

- تجوبونها بلهفة -

باحثين عن المزيد المُشْبِعِ

كأنَّ أباكم النِّيلَ لا يَسِدُّ الجوع!

(6)

آخرُ حديثٍ هَمَسَ لي به إنسانٌ مقهور

(سبق وأدناني من نفسه

وحكى حكايته الرَّهيبة المؤثِّرة

وكم سقاني ما أذهل القلب

وأفهمني حكمة المقاهي

في ذُرْوَةِ إخراسِ الميادين):

المقاهي بحُرِّيَّةِ رُوَّادِهَا - يا أخي الشَّاعرَ -

بِظِلِّها الذي يستوعبُ غِنَاءَ الثُّوَّارِ..

منذ مُدَّةٍ لا يردُّ على الهاتفِ

ولا يقيمُ في البيتِ

والبيتُ لا يقيمُ في الشَّارعِ

والشَّارعُ لا يقيمُ في المدينةِ

والمدينةُ لا تقيمُ في الوطن

.. يسألني بشرٌ محتشدون  كالغضب

عن سِرِّ غيابِ قهوته المُرَّةِ؛

فأستفيضُ في مديح رُؤَاهُ

لكنَّني أتهرَّب من إجابتهم..

ولا أحدَ يعلمُ إن كان وهمًا

بالأساسِ، أم حقيقةً واختفت فجأة!


 

كلمتان متساندتان؛ لو سقطت إحداهما لسقطت الأخرى!



 (الكلمة الأولى)

لم آكل عصافيرَ قطُّ

الرَّجل يبيعها في ميدان التحرير

مشويَّة..

لا يهمُّ كيف يفعل ذلك في ميدان التحرير

المهم لو أكلتها فلن أكتبها في الشِّعر

سيطير وحيها من سمائي حتمًا

ولن تجدوا في قصائدي شجرةً واحدة

وحينها أخاف أن تقدِّموني للمحاكمة

بتهمة معاداة الصَّباح والغناء

حينها سأقتل نفسي بيدي

قبل أن يقتلني شعوري بالذَّنب

لكنني سأعيش أكثر منكم

الأكيد أنَّني سأعيش أكثر

لأنَّكم أنتم مَنْ شجَّعتم الصَّيَّاد البائس

على مواصلة الخطيئة

بالتفافكم حوله

التفافكم الذي وأد الثَّورة في الصَّميم!

..

(الكلمة الثَّانية)

أبسط شيءٍ على الإطلاق

أن تخون امراتك

أن توهمها بالحُبِّ

بينما تضاجع أخرى في سريرها بالذَّات

أو حتَّى في مضجعٍ آخرَ

حسنًا.. بوسعك أن تفعل

مستريح الضَّمير لو شئت

لكنَّ الأنسجة التي في رحمها

ستطرد ماءك القذر بعد ذلك

(ماؤك الذي كان مفضَّلًا من قبل)

ونهداها سينغلقان بوجهك تلقائيًّا

وَوَرِكُهَا سيدَّخر دسمه لرجلٍ جديد

أريدك أن تتخيَّل الحرب الخفيَّة

التي ستقوم ضدَّك لو خنت أنثاك

حرب العظام واللَّحم والدَّم

أريدك أن تخاف بقوَّةٍ

وأن تندم جدًّا وتشعر بالأسى البالغ

وتعلِّق حبلًا غليظًا في سقف حجرتك

وتقف على الكرسيِّ بشجاعة

تحيط رقبتك بالحبل الصَّارم

وتدفع الكرسيَّ للوراء

تدفعه وحدك

أو بمساعدة خائنين تائبين

وتموت، لمجرَّد أن الفكرة السيئة

مرَّت بخاطرك!

 

قد يعجبك ايضا

تعليقات