القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث الموضوعات [LastPost]

وقت لا ينتهي ولا يبدأ / أسماء ياسين

 

وقت لا ينتهي ولا يبدأ

 أسماء ياسين

 

 
صباح الخير. ماتَ الرجل.
هه؟
نعم مات.. هل أنتِ حزينة؟
نعم، أنا حزينة. تبدأ صباحي بخبر كهذا، أنا حزينة أكثر من أمس. قلتُها وأكملتُ تحميل وثائقي عن حياة جون لينون. ما زلتُ أفكر أن عليَّ إعادة طلاء حوائط الغرفة، وتنظيف بلاط الحائط الذي يعلو البوتاجاز، أصبح لونه أسود من تراكم الزيوت والدخان، لكن ربما في وقتٍ آخر، وقت آخر لن يجيء.
سأجرب شيئًا مختلفًا هذه المرة؛ إضافة القليل من النشا إلى الشعريَّة باللبن، وتقليل السُكَّر. أو ربما قراءة اللافتات الإعلانية للمرة الثالثة بعد الألف على المحور، تزجيةً للوقت الذي لا ينتهي، ولا يبدأ.
-عارف؟
-لأ.
إليكَ الجديد، أطفال الحضانة المقابلة للبيت لم يجيئوا اليوم، تغيَّبوا كلهم، فجلست الأبلوات في الفصول، وأخذن يثرثرن عن الأزمة القلبية التي أصيبت بها المديرة، لم يكن في معظمهن متعاطفات مع مصابها، ولم تأتِ واحدةٌ منهن على ذكر غياب الأطفال الجماعي غير المُبرر، وفي الثانية عشرة تمامًا انصرفن إلى بيوتهن. اثنتان منهن مرَّتا على "المرشدي" بائع السمك الريفي الذي يجلس بسمكه وجمبريه وكابوريته في الحديقة المقابلة للحضانة، سألن عن سعر التونة والبلطي ولم تشتريا.
ناوِلني ذاك الكتاب، لا ليس هذا، ولا ذاك الآخر، الضخم، قليلاً من التركيز، انتبه لما أقول، أعرني بعضًا من رأسك المزدحم بخراء لا يعنيني في شيء. هل يعنيكَ لماذا أريد هذا الكتاب بالذات؟ أجب، يعنيك؟ سأخبرك، أنوي وضعه تحت ترابيزة التليفزيون كي لا تهتز، ولمعلوماتك الخاصة، ولا تخبر أمك بهذا، كي لا تصفني بالجنون كما في كل مرة، حين أضعه تحت الترابيزة ستدخل الحديدة المتبقية من العجلة الخلفية المكسورة في عين المؤلف تمامًا، فتصيبه بعمى دائم، وسأظلُّ أضحك وأضحك حتى بعد غد.
لن أستقل سيارتي إلى وسط المدينة، لأنني لا أملك سيارة الآن. بالمناسبة، أمس جمعت كل المفاتيح التي لا لزوم لها، وألقيت بها في بلاعة المجاري المفتوحة طول الوقت، على ناصية الشارع.
أمس، وأنت تعانقني عناقا روتينيًّا بعد عودتي من العمل، هل حقًا قلتَ: صار شعرك خشنًا، لماذا لا تقصين أطرافه المقصفة؟ أأصبحت تعمل في مجال الدعاية لشامبوهات الشعر؟ ما دخلك بخصلات شعري؟ هل جربت مرة أن تراقبه في الشمس، ثم بعد غيابها؟ هل رصدتَ الفرق الواضح بين لونه المتقلب بين النهار والليل؟ هل تدري في أي جانبٍ منه تتركز الشعرات البيضاء، التي بدأت في الظهور بكثافة في الشهر التالي لبداية علاقتنا؟ قريبًا ستصبح لديَّ خصلة بيضاء مثل صلاح قابيل. في الزمان الذي يسبق الزمانين الأخيرين، كنت أتمنى خصلة كهذه، كما تمنيتُ أن ألبس نظارة طبية، فأصبح وقورًا، وقارًا يليق بفتاة كئيبة، لم يقبِّلها أحد حتى أنهت الجامعة، وكانت تعتبر تفويت محاضرة اللغة الفارسية إثمًا كبيرًا.
أنتَ مسكينٌ، لستَ تملك أوقات فراغ كافية لتفعل شيئًا يتعلق بي، ولا يتعلق بكَ؛ ستعمر طويلاً وتظل بصحتِك، أو ستموت فجأة بكامل صحتك، في حين أعدُّ أمراضي من الآن؛ أقراص الأسبرين، التي أتعاطاها باستمرار تفاديًا لجلطات الدم، لن تنفعني، نظرًا إلى تاريخ العائلة الوراثي في المرض، إمَّا نسوة مصابات بضغط الدم المرتفع، أو رجال مصابون بأمراض في القلب، وبضعة أجداد ماتوا بعد صراع قصير مع أمراض الكبد. الخلاصة، موتٌ قريبٌ ينتظرني، فإن لم يكن فحياة تأكلني فيها الأمراض الواحد تلو الآخر. لم أعد أخشى العمى، بعد ما صححتُ بصري، صرتُ أرى جيدًا كيف تصوغ الكذبة، كيف تحضّر لها، وتطهوها، وتنطقها في هدوء، كما تمضغ طعامًا أعدته أمك.
على فكرة، لديَّ يقين أنك لم تضاجع الفتاة التي كانت تزورنا مؤخرًا، وتدَّعي صداقتي، أصدقُ أنها تحرَّشت بك، وأنك تمنّعت، رغم مظهرها الوِلادي الذي يستهويك، وقلتَ لها : عيب! وحين أشغل تراكين موسيقيين في اللحظة نفسها، النواح الموجع في فيلم "الهروب" والصافرات التي تميِّز فيلم kill bill فلا يمكن استنتاج أي شيء، عدا أن هذين هما فيلماي المفضلان في السنوات الخمس الأخيرة. لا تدَّعِ أنك تفهم الأمر، أنت لا تفهمُه. هل بعد خمس سنوات من الآن سيكون لديَّ فيلمان مفضلان آخران؟ ربما أكثر، ربما أتوقف عن سماع لويس أرمسترونج، وأستبدل به آخر أقل سُمرة، وأكثر نعومة ومُحنًا. ربما أقلل كمية الشاي التي أضعها في كل كوب، وأعاود الذهاب إلى طبيبي النفسي، وأعود للزولام والزيبركسا، أتعاطاهما وأنام كثيرًا، كمغشي عليها. وأصحو لا أتذكر من أحلامي الليلية مشهدًا. لن أعاقب نفسي على أنني عشت دهرًا، وفيلمي المفضل هو "جسور ماديسون" لن أحتقرَ تلك المنطقة الطريَّة في لا وعيي. سأعفو عنها، في حملة العفو، سأسامحها مثلما سامحت أمي وأبي على إنجابي، ومثلما سامحتُك على تحديقك الدائم في جسد الفتاة التي كانت تزورنا مؤخرًا، وتدَّعي صداقتي.
وهذا المنديل الخارج من فوهة علبة المناديل الورقية، لا يعرف أي مصير مقرف ينتظره، لذلك فهو منتصب يتراقص مع الهواء يمينًا ويسارًا! وكوبي الأبيض بالقط المكلبظ الذي يثقل ظهره، هادئ مُستقر، لا يتحرك من مكانه، رغم كل محاولاتي وتماريني في حقل تحرّيك الأشياء عن بُعد؛ أخبرني أحد أصدقائي الدجَّالين وهو يمسك بكفي ضاغطًا على الشرايين في باطنه، أن ما يحتاجه الشخص لتحريك أي شيء من مكانه، هو أن يؤمن بقدرته على فعل ذلك "آمني وستفعلين".. آمنت، لكن لم يحدث شيء، آمنت بقوة أكبر، حين أردت ريموت التليفزيون الذي وقع تحت الكنبة، وملايين النملات تنتشر في قدمي من طول الجلسة، بدأتُ في تجربة قوة إيماني: تعالَ أيها الريموت، هيا، تحرَّك، قفزة واحدة وتكون فوق الكنبة يا عبيط، ولا فائدة! عندها اضطُررت للاستماع إلى حلقة طويلة من وثائقي يتحدث عن أنسب الأوقات لتلقيح إناث الحوت الأبيض. واضح طبعا أني أحب الأفلام الوثائقية، ولا غضاضة تجاه الحوت الأبيض وإناثه، لكني كنتُ أشعرُ بالبرد، وكان الفيلم يمتلئ ثلجًا، دون أدنى مراعاة لشعوري.
لم يكن إيماني كافيًا، بأي شيء، لم أومن حتى بقدرة الزجاجة الزرقاء الصغيرة ذات البخاخ القابعة على رفِّ المكتبة على مسح شاشة اللاب توب جيدًا، ولهذا تجد نقاطًا كثيرة لا لون لها على شاشة اللاب توب، أنتبه إليها عندما تنطبعُ على صورة لأحدهم فتضع له حسنةً في غير موضعها. هل ما زال هناك شيء قادر على إضحاكي؟ ربما نعم، ورغم أن شراء زوجين من كل الأشياء لم يعد فِعلاً يثير فيَّ أي نوعٍ من العاطفة، فإنني لا أكترث، ولستُ مهتمة بماذا يسمى صوت أوراق الشجر، يهمني فقط أن هناك شجرًا، وأن أوراقه، وإن كان نصفها أصفر اللون، ما زالت تهتز.


تعليقات