بِشوكةٍ في حَلقها وتُغَنّي
مختارات من شعر سامية ساسي
قبل الشّعر، و بعده...
قربُ طريقٍ إلى قلبِ الرَّجلِ، بَطنه.
حينَ تزوّجتُ، كنت طفلةً بضفيرتيْن، لا أحسنُ قَلي بيضة، أنزعُ الزيَّ المدرسيّ و أدخلُ
المطبخَ بيديْن مُرتجفتيْن.
هو، طباخٌ جيّد، لا يُساعدني، لا يرشدُني، لا يدلُّني إلى سرّ النكهةِ، يسندُ ظهرهُ إلى الباب
و يُراقب، يقول: لا تهتمّي للمقادير، اتْبعي الرّائحة!
في الشِّعرِ أيضًا، كنت طفلةً بضفيرتيْن، أدخل المطبخَ بيديْن مرتجفتيْن وأكتبُ قصائدَ لا طَعْمَ
ولاطُعْمَ فيها.
هو شاعرٌ جيّدٌ،لا يفعلُ شيئًا، يسندُ ذقنهُ إلى كفِّهِ و يُراقب، يقولُ: لا تهتمّي للمقادير، اتْبعي
الرائحة!
الآن أنا إمرأةٌ بضفيرتيْن، أدخلُ المطبخيْن بيديْن ثابتتيْن وقلبٍ يرتجفُ.
هو رجلٌ جيّد، يقرأُ ما أكتبهُ مِلْء بطنِه و أنفهِ.
ويأكلُ ما أطبخهُ ملْء بطنهِ و أنفهِ أيضًا.
لكن يحدثُ، على مائدة الطعام، وفي الطريقِ الأقربِ إلى قلبِ الرجل، أن يضغطَ بقبضةِ كفِّهِ
على كتفي ويقول: انتبهي للمقادير يا صاحبتي، و عدِّلي الملحَ !
فأُغلقُ بابَ المطبخيْن وأتبعُ الرائحة.
مبتورةُ الأطرافِ
عارضةُ أزياء بيدٍ واحدة.
طويلةُ القامةِ كصفصافةٍ،
يُمكنني أن أزحفَ على بطني،
أكسِرَ أظفاري في شقوق الجدران
حينَ أخضرُّ وحيدةً على عتبة الموانئ.
أنا، الصّلعاءُ التي تُغني في أرصفة قاحلة،
يُمكنني أن أُقبِّل الله حين أُصلّي،
أنزفَ من عينيَّ حين أعطش
وأُنجبَ عميانًا وشحّاذين يغفرون لي.
أنا،
عارضةُ أزياء
مبتورةُ الأطراف كصفصافة،
يُمكنني أن أقطعَ يدي
لأجل شاعرٍ بيدٍ واحدة،
أراد في نهاية العرض أن يُصفّقَ.
بِشوكةٍ في حَلقها وتُغَنّي
قبلَ قبلةِ الصباح، يمسحُ بأصابعهِ على شفتيَّ المُغمضتيْن
يقولُ: صوتُك صغيرٌ بحجمِ منديل.
ثم يلقي به من النافذة.
من النافذة، أسمعُ أغنيةً ساخرةً تقول:
" صوتها، خلف ثقب البابِ، عوْرة"
فأتعرّى،
وأقولُ، بعظمةِ لساني، شعرًا بريًّا
يأتي على شكل صيْحاتِ،
فيرفعُ المارّون تحت نافذتي أعناقهم.
أتقدّمُ الآن في السنّ، فيطولُ لساني،
أقرضُه كلّما تكلّمتُ،
آكلُ السينَ والرّاء معا، فتخرجُ كلماتي كسمكاتٍ بلا ذيل،
أُغلقُ عليها فمي، وأبلعُ السمكةَ وذيلها.
مساءً، تمرُّ ببيْتي نسوةٌ بألسنةٍ قصيرةٍ
يمسحْن بأصابعهنَّ الطويلةِ على دفّتيْ نافذتي المُغمضتيْن
ويهمسْن:
مَن يُسكتُ إمرأةً حرّةً
أربعون عامًا، بشوْكةٍ في حلقها
وتُغنّي.
حُلمٌ نَشازٌ
حينَ أكونُ نائمةً
يَنزَعُ أَقراطي.
يضعُ كلّ آذان الجدران على الطاولة.
يَنسى صَوتَهُ عند الباب،
ويَصعدُ مع ظَهري.
*
ماذا يُريدُ أن يَقولَ،
الشاعرُ الذي يُشيرُ إلى جُثَّتهِ تصعدُ
مع النَّهر؟
*
صباحًا،
يستيقظُ الجميعُ بسراويلَ مبلولة،
يتفقّدونَ أصواتهم،
يمرّونَ بسرعةٍ،
ولا أحد يتوقَّفُ ليسأَل المرأةَ البكْماءَ،
النّائمة على بَطنها منذُ سنتيْن عندَ العتبة،
عنِ الرّجلُ الذي يَطوفُ ببيوتهم يسرقُ أصواتهم
ويُعلّقها عندَ بابِها
وينتظرُ منها
صيْحةً بحّاءَ واحدةً
لِيصْعدَ معَ النّهر.
بيتٌ عازلٌ للصّوت
أسكنُ بيْتا نائيًا، عازلاً للصّوت، شَطْرَ البحر
كلّ ليلة أستقبلُ نساءَ القريةِ الأربعين.
يأتينَ بكاملِ زينتهنَّ.
يتحلّقنَ حولي، ويتكلّمنَ بصوتٍ واحدٍ،
في وقتٍ واحدٍ.
وبلهجةٍ واحدةٍ، يقلْنَ حكاياتٍ مختلفة.
أقرأُ على شفاههنَّ جيّدًا وأنامُ على بطني.
هذا الصباح،
نهضت أكثرَ فتنة.
بفستان برتقاليٍّ مُثيرٍ، فرشتُ نصوصي في السوق للعابرين.
وبصوتٍ واحدٍ،
بعتُ أربعينَ نصًّا دفعةً واحدة.
أربعونَ نصًّا في قفصيْن،
لرجلينِ فقط، لا أذكرُ وجهيْهما الآن
لكنّني أعرفُ ابتسامة الشاربيْن
وعاهةَ الكتفِ.
في زحمة السوق والشتائمِ،
عَلِقَ نصٌّ من نصوصي بكعبِ امرأة تركضُ عالِقةً برجُليْن.
صرخْتُ، فلم يطلعْ صوتٌ.
لم يقرأ أحد على شفتيّ حين ناديْت على نصّي الأخير
يُغادرُ السوق مدعوسًا بنعلِ امرأةٍ
تجرُّ طفليْن
إلى بيْتها النائي، شطرَ البحر
ولا يطرق بابها أحد.
لا تُخطئُ العدَّ
يوميًّا ألعبُ لُعبةَ الغميْضَة مع أمّي.
هي، امرأة الستّينِ، تَخْتفي.
أنا، عصابةٌ سوداء على عيْنيّ وأَعدُّ حتّى الأربعين ولا أُخطئُ العدّ
أُمّي فاقدةُ البصرِ منذُ سنتيْن، لا تخْتَبئُ.
تُمسكُ بيدي وتساعدُني في البحثِ عنها،
غُرفةً، غرفةً، حتّى نصلَ قبْرَ أبي.
ماتَ بَابَا إذن منذُ أربعينَ يومًا؟
حينَ أخذوا سريرهُ من فوقي لم أنتبه،
كنتُ مُنْشغلةً، أَلعبُ معهُ لُعبة الغميضَة.
هو رجلُ السّبعين ( سبعونَ فقط)
ينامُ.
أنا، أَدسُّ رأسي تحت سريره وأختفي.
ويبقى ظهري عاريًا
بأربعينَ شرْخًا
تُحصيها أمّي، فاقدةُ البصرِ،
شَرخًا، شرْخًا حتى نصلَ قبرَ أبي
ولا تُخطئُ العدّ.
لا توقظي الأموات!
المُمرّضةُ التي تُصرُّ على تغييرِ ملاءاتِ سريري البيضاء بنفسها،
تمَّ طردها هذا الصباح من المشفى بتهمة سرقة أزهارٍ من غرف المرضى وإزعاج الأموات.
البارحة، حدّثتها عن الرائحة الضيّقة للشعر في جسدي المفتوح.
حدّثتني عن بكاء أطفال في راحتيْها.
عن" مُضاجعةِ الأمواتِ" التي لا تؤذي الأمواتَ.
عن الركض حافية بين المشرحة وغرفةِ العمليّات.
عن فخذ الراقصة المجهولة، دماغ الشاب ، ثدي الحامل، صدر الطفلة المثقوب،
ضرس الزنجي، مؤخرة الكسيح... وأشعار الملعون " غوتفريد بن" ومشرطه.
فجرًا، سمعتُها تُصلّي،
من أجل أجنّةٍ ينامون في المزابل وبين المراحيض.
رضّع يفقدون ألسنتهم في الملاجئ.
عجّزٌ يزحفون على مؤخّراتهم إلى بيوت لم تعد بيوتهم.
أرامل، أمهات، عاشقات يطُفنَ بالمشفى ويرجُمنَ شيطان الموت.
صباحًا، تُصرّ على تغيير ملاءات سريري البيضاء بنفسها.
تُحصي الكَدمات على جسدي.
تلعنُ المسكّنات اللعينة وطيبةَ أمراضي الخبيثة.
توشوشني: لا توقظي الأموات!
وتختفي.
يقول شاهدُ عيانٍ لم يفقد ثقته بالأحياء، إنه يراها، في نفس التوقيت يوميًّا،
تضعُ أزهارا على قبر رَجُلٍ،
وتعتذر لأنها لم تُغيِّر ملاءتهُ البيضاء هذه منذ سنتين.
وتُحدّثهُ عن امرأة تركضُ ليلاً ،
بين غرفة العمليات والمشرحة وتكتبُ شعرًا مفتوحًا كجسدها
تمامًا
ولا توقظ الأموات.
فرحٌ بعيدٌ
سأنتظرُ الحربَ القادمةَ
لأُنجبَ بِنتًا، كبيتٍ،
بشَعرٍ مُجعّد
وفرحٍ بعيدٍ.
ستكونُ قبيحةً وحرّةً مثلي.
ففي الحروب فقط،
يُسيّجُ الجمالُ بالبنادقِ.
في الثوراتِ الباردةِ،
ستُسافرُ حافيةً في الشاحناتِ.
ستحبُّ البيتَ والبلدَ.
وتعشقُ جنوداً بَرِّيينَ،
لا تبكيهم حينَ تختفي أحذيتهم بينَ الأوطان المُتشابهة.
ستَطرحُ، كزنْبقةٍ، أطفالاً في الشوارع
يتناسلونَ كالبقِّ من الجدران.
وسأرفعُ رأسي بها،
حرّةً و قبيحةً مثلي،
تنتظرُ الحربَ القادمةَ
وتقرأُ شِعرًا في الحانات
بنهديْنِ مقطوعيْنِ
وفرحٍ بعيدٍ.
شاحن البيرة
أقودُ شاحنةَ بيرة، حين أكتب.
لا أنا أَسْكرُ،
لا ريقي، رغْوة الكرَز،
دمي هو دمي،
ولا شيء يترنّحُ تحت ورقِ التّوت.
أنا، فقط، حين أعبُرُ الأزقة كشاحنة بيرة،
أُحبُّ أن تُطوّقني اللّعنات واستغفارُ الشّاي في المقاهي،
أُحبُّ الضّحكات والغمزات،
وحجارة الأطفال والصّفائح في خصلات شعري.
أُحبُّ الشّهوة القارسة على شفاه العاطلين،
بين أسناني.
أُحبُّ الألسنة الصّفراء، كقصبٍ يتكسّر فوق ظهري.
أُحبُّ الأصابع التي تقذفُ سِريَّتها خلف النوافذ وتحت الجدران.
أُحبُّ الأيدي التي تُوضعُ موضِعَ السرّ، لإرباكي حين أمرُّ.
أُحبُّ النّجَس الذي على عاتقي.
النّحْس الذي لا يعتِقني.
وأُحبُّ شاحنةَ البيرة التي تركُنُ الآن، فارغةً، أمام بيتي،
فأسْكَرُ،
بلحْس الحبْر بين أصابعي،
تحت عريشة العنب،
وأُغنّي.
"سامية "
إسمٌ عموديٌّ جدًا لم أُحبّه يومًا.
سامية،
وأسقطُ.
لديَّ الكثيرُ من الجرائم لم أرتكبها بعدُ.
في الهاويةِ أفكّر بأشياء جميلة :
السّروةُ في سلّة عشبٍ .
السماءُ، أبسطها لأقبّلَ اللّه على الأرض.
سامية،
وقصائدي أكتبها زحفًا.
ما قرأتهُ، قرأتهُ برملٍ على بطني.
الرّجال الذين أحبَبتهم، أحببتهم برُكبتيَّ كأنهارٍ.
سامية،
وأفقيّةٌ.
فوحدَها الأرصفةُ
تُصيبُني بالدّوار.
تعليقات
إرسال تعليق