مختارات من شعر ثيسار باييخو
ترجمة : أحمد يماني
النُّذُر السُّود
ثمة ضربات في الحياة، جد قوية. أنا لا أعرف!
ضربات كبغضاء الربّ؛ كما لو أن أمامها،
تترسب راكدةً في الروح
مرارةُ كل المعاناة. أنا لا أعرف!
إنها ضربات قليلة، لكنها ضربات
تشق أخاديد قاتمة
في أكثر الوجوه توحشا
وأكثر الظهور صلابة.
قد تكون أحصنة البرابرة الأتيليين
أو النذر السود يرسلها لنا الموت.
هي السقوط العميق لمُسَحاء الروح،
لإيمان مستحَق يكفره القدر.
تلك الضربات الدامية هي طقطقة الخبز
الذي يحترق منّا
على باب الفرن.
والإنسان بائس، بائس!
يلتفت بعينيه، مثلما يحدث حين ينادي علينا أحدهم
مربتا على الكتف؛
يلتفت بعينين مجنونتين،
وكل ما عاشه يركد، مثل بركة صغيرة من الخطيئة،
في نظرته.
ثمة ضربات في الحياة، جد قوية. أنا لا أعرف!
دون أن نتعارك، كما يجب أن يحدث؛
لقد بقيت في بئر الماء، جاهزة،
محملة بالحلوى من أجل الغد.
لننتظر هكذا، طائعين،
دون حل آخر،
عودة الكبار وترضيتهم
هم من في المقدمة دائما
تاركينا نحن الصغار في البيت
كما لو أننا أيضا
لا يمكننا الذهاب.
أغيديتا، ناتيبا، ميغيل،
إنني أنادي، أتحسس في الظلام.
لا تتركوني وحدي،
وأكون أنا الحبيس الوحيد.
عنف الساعات
سوف أتحدث عن الأمل
أنا لا أعاني هذا الألم كثيسار باييخو. أنا لا أتوجع الآن كفنان، ولا كإنسان، ولا حتى كمجرد كائن حي. أنا لا أعاني هذا الألم ككاثوليكي ولا كمحمدي ولا كملحد. اليوم أعاني فقط. إذا لم تنادني باسم ثيسار باييخو فسوف أعاني أيضا الألم نفسه. لو لم أكن إنسانا أو حتى كائنا حيا، فسوف أعانيه أيضا. إذا لم أكن كاثوليكيا ولا ملحدا ولا محمديا فسوف أعانيه كذلك. اليوم أعاني من الأسفل. اليوم أعاني فقط.
أتوجع الآن بلا تفسير. إن ألمي من العمق بحيث أنه لا سبب له كما أنه لا يفتقر إلى السبب.
أي سبب يا ترى؟ أين ذلك الأمر بالغ الأهمية والذي لم يعد سببا له؟ لا شيء سبب له ولا شيء تمكن من ألا يعد سببا له. لماذا ولد هذا الألم، أمن أجل نفسه؟ إن ألمي من ريح الشمال ومن ريح الجنوب، كذلك البيض الحيادي الذي تضعه بعض الطيور الغريبة في الريح. لو ماتت حبيبتي فإن ألمي سيكون نفسه. لو قطعوا رقبتي من جذورها فإن ألمي سيكون نفسه. لو أن الحياة كانت، في نهاية الأمر، بخلاف ذلك فإن ألمي سيكون نفسه. اليوم أعاني من الأعلى. اليوم أعاني فقط.
أرى ألم الجائع وأفكر أن جوعه يمضي أبعد من معاناتي، وأن ببقائي صائما حتى الموت فإن غريسة من العشب، على الأقل، ستطلع دوما من مقبرتي. الشيء نفسه مع العاشق. يا لدمه الولاّد، على نقيض دمي الذي بلا منبع أو استخدام! ظننت حتى هذه اللحظة أن كل أشياء العالم كانت، بالضرورة، آباء أو أبناء. لكنني هنا وألمي في هذا اليوم ليس أبا أو ابنا. ينقصه ظَهر كي يغرب بقدر ما يفيض عنه صدر كي يشرق ولو وضعوه في المسافة المظلمة لما أنار ولو وضعوه في المسافة المنيرة لما ألقى ظلا. اليوم أعاني، مهما حدث. اليوم أعاني فقط.
لم يعد أحد يعيش…
– لم يعد أحد يعيش في البيت –تقولين لي-؛ رحل الجميع. تستلقي فارغة الصالة وغرفة النوم والفِناء. لم يبق أحد، فالجميع رحلوا.
وأنا أقول لك: عندما يذهب واحد، يبقى آخر. النقطة التي عبر منها إنسان، لم تعد وحيدة.
فقط يبقى وحيدا، وحدة إنسانية، المكان الذي لم يعبر منه أحد. البيوت الجديدة أكثر موتا من القديمة، لأن جدرانها من حجارة أو من فولاذ، لكنها ليست من بشر.
يولد البيت في العالم ليس عند الانتهاء من تشييده، بل عندما يبدءون بالعيش فيه. البيت يعتاش فقط على البشر، كالمقبرة. فقط يتغذى البيت على حياة البشر بينما المقبرة تتغذى على موتهم. لهذا فإن البيت يكون قائما بينما المقبرة تكون منبسطة.
رحل الجميع عن المنزل، في الواقع، لكن الجميع بقوا حقيقة. وليست ذكراهم هي ما تبقى بل هم أنفسهم. وليس كذلك أنهم بقوا في البيت بل إنهم يواصلون عبر البيت. الوظائف والأعمال ترحل عن البيت في قطار أو طائرة أو على ظهر حصان، على الأقدام أو زحفا. ما يواصل في البيت هو العضو، الشخص في صيغة الفاعل والدائرة. مضت الخطوات والقبلات والغفران والجرائم. ما يظل في البيت القدم والشفاه والعيون والقلب. النفي والتأكيد، الخير والشر، تفرقت مشتتة. من يظل في البيت هو فاعل الحدث.
بابل
بيت وديع بلا خصوصية،
شُيّد بضربة واحدة
وبقطعة واحدة
من شمع متموج الألوان.
وفي البيت
هي تهدّ وتبني؛
وأحيانا تقول:
“المأوى جميل؛ هنا وحسب”
وأحيانا تأخذ في البكاء!
الشاعر لحبيبته
حبيبتي، في هذه الليلة
أنت صلبت نفسك
على خشبتي قُبْلتي المقوستين؛
وقال لي حزنك إن المسيح بكى،
وإن ثمة جمعة حزينة أحلى من هذه القبلة.
في هذه الليلة الصافية التي طالما
نظرت فيها إليّ،
كان الموت مرحا وغَنّى في عظامه.
في هذه الليلة من سبتمبر
أُقيمَ قداس سقطتي الثانية
والقبلة الأكثر إنسانية.
حبيبتي، سنموت معا، معا تماما؛
وسوف تأخذ في الجفاف
شيئا فشيئا
مرارتنا السامية؛
وسوف تكون شفاهنا الميتة
قد لامست الظل.
ولن يكون ثمة عتاب في عينيك المباركتين؛
ولن أعود إلى الإساءة إليك.
وفي أحد القبور سننام معا
مثل شقيقين صغيرين.
_______________________________________
ثيسار باييخو César Vallejo أحد أكثر الشعراء تفردا وتجديدا في الشعر الإسباني والعالمي في القرن العشرين، يتميز شعره بنبرة شخصية تصل إلى مستوى جمعي في تضامن مع الألم الإنساني والانشغال العام بالهم السياسي، مبتعدا بهذا عن الثنائيات الساذجة التي تفصل الانهمام الشخصي عن الجماعي وتسعى للتفريق بين الشاعر العام والخاص، ينتظم كل هذا في لغة مفتوحة على جميع الرخص والحريات وعلى جماليات تمتح من كل ما يتوافر أمامها ولا شك أن باييخو من أصعب الشعراء في اللغة الإسبانية فقد شق لنفسه طريقة في الأداء اللغوي تبدو عصية على التلقي العادي لها ومن هنا نرى كثرة الشروحات والتأويلات والاختلافات الهائلة في فهم وتفسير جمله المتواترة في شكل سحري ربما، فالمفردة بالنسبة له تحمل قوة غامضة في ذاتها ولا يتوانى عن تكسير التسلسل المنطقي للزمن الفعلي والزمن النحوي.
تعليقات
إرسال تعليق