مقعد شاغر في الباص
مختارات من شعر أحمد سعيد
1
أتعبت الكلمات معي دائما.
أخذتها بصحبتي
لكل مكان ذهبت إليه:
إلى المدرسة
حيث تركتها في الخارج.
كان ممنوعا علي الطلاب
اصطحاب الكلمات:
من يضبط وهو يتكلم
سيظل وجهه
لصق الكلس طوال العمر..
هذا العمر بالأساس
حائط!
فهلا كتبت هنا ما يحلو لك.
لا بأس إذن إن تبولت
قليلا.
جاءت معي مرة
إلى الجيش
لم تكن سعيدة
لم تفهم أبدا
كيف يتحول الواحد منا
إلى قطار
ينسى كلماته على المقاعد
بين ركاب لا يعرفون
ماذا يفعلون بذنب كهذا
وليس القتل.
في العمل بعد ذلك
كنت أتركها
على مقهى قريب
وقهوة مقطوعة النسب
أو محطة وقود
تحت غطاء متثاقل
- أشفق الآن
على أنفاسها -
ريثما أعود بإشارات الفرح.
أعترف أنني كثيرا
ما كنت أقض مضجعها
في منتصف الليل
وأطلبها في أماكن غريبة:
الحمام
المطبخ
علي سجادة الصالة
وكذا في الأماكن العامة:
غير مرة
عملنا مع قطط السلم
وقمر بأعلى كعلبة زبادي
عائلة سعيدة.
رغم هذا كله
لم تهدد أبدا بالانتحار
في أفران الغاز
بوصفي هتلر
ولا بتركي يوما ما وحيدا
هكذا
بين حشد من المعلبات
والذهاب غضبى إلى بيت ماما
أثرثر مع الأولاد
بما لا يصح
معلما إياهم هذا النباح.
كانت حبيبتي مخلصة
كما - لو أنه باستطاعتك أن تقول -
خرس قديم.
2
بودي لو أطير طوال الوقت
لا تفلتيني من بين ذراعيك إذن
كوني سترة نجاة مخلصة
وانفتحي في التوقيت المناسب
حين أصمت مشدوها عن العد
فاغرا فاهي بالرقم 5.
ولو شتمتك لا تغضبي، رجاء
هذا عرض جانبي
للسقوط:
تعرفين الأساطير التي كتبت
في لوم حواء
على انزلاقة القدم تلك
منذ تركنا الأجنحة
في حجرة تغيير الملابس.
3
أنا كنت دائما أتتبع الأوصاف المعطاة سلفا
وأنتقي أبعد الاختيارات عنها تماما:
فإذا قيل بأن الوجه كالأيام مستطيل
أبحث حتما عن المدور بين المرسوم أمامي
الأقرب لميناء ساعة حائط.
وإذا وصف الشعر بسنابل القمح أشقر مجعدا
كان علي فورا أن أعثر على الأسود من الفحم والناعم.
يلبس نظارة طبية بالطبع إذا نص على خلاف هذا..
مكانها الفارغ في خواء الأنف ببند واضح وصريح،
بل وأغير أيضا شكلها كلما أمكن.
كما ترى على هواي وكما يعن لمزاجي..
مثلها مثل السمك الذي يقول اسمه للبحر ويهرب
نحو بطن الموجة ثانية.
أختلق حواجب وأنفا بالشكل الذي يرضيني،
وأوسع الفم وأدبب الذقن ثم أغلظ الشفاه
أو أدققها لتصير أخرى.
ولا أفهم أبدا لم يترك المفقودون
صورا لهم بالخلف منهم؟!
4
له لحيتك المشعثة
والشعر الذي في الساعدين
كما أن رائحته سجائر مهربة
مثلك تماما
بل وأيضا لا ينبس
إلا بما أملي عليه
قل إنك تحبني:
-أحبك يا عروس البحر.
أخبرني أنها طبائع الأمور:
-حتمي ومقدر.
طمئني أكثر:
-ستكونين بخير.
وأنك لن تتركني
مهما حدث:
-لن أفعل أبدا.
هذا الملح لأن ثمة دموع
قلها..
قل: سأعود ذات يوم.
5
في كل مسابقات الجري
كنت الفاشل الحتمي:
أنا العداء الوحيد
الذي لم يتمكن من ترك
حياته خلفه
تتعلم المشي بمفردها.
ودون ثمة شفقة
فليس للأمر أية علاقة
بالحادث الأخير:
الخدش الطولي فوق ساقك
يجعلها أقرب للوحة جواش
مهرها صانعها باسمه
أو بهذا الشعور بالأسى
إذ نغادر لتونا لحنا ما.
لا أحب أن يبقى البيانو
يبحث وحده في الطرقات
أقول للكمنجات:
لا تتركوا البيانو هكذا.
إنه ثرثار وسيفتن للمارة
عن ملابسكن الداخلية
والشامة بملتقى الكتفين
مثل فراشة عنيدة.
أنا خلصت ضميري.
6
ضحكنا عليك يا شجرة
بسكين رسمنا قلبا
لنشق عنه بسهم أبيض
أجل، أفسدنا عليهم خشبك
وضيعنا من تحت مناشيرهم الفرصة
أحسـن حل!
فلا يصنعوا منك تابوتا أبدا
وإمعانا في إغاظتهم
كما ترين:
سنقبل بعضنا البعض
أمامك
بعينين مغلقتين تماما.
7
تعاركنا
أنا لي الأرض وأنت لك السماء
تملؤها دعاء وتبللها بالدموع.
أنا لي القطارات
وأنت لك المناديل البيضاء
تلوح بها
تجلو الأفق لتبحث عني
ولن تجدني.
حذار أن تفعل!
أنا عند ماما وأنت عند بابا.
بحرك هذا
لن يكون به من الآن سمكة!
من كل الدنيا
لا أريد غير حضنك فحسب
دعه لي هاهنا
في مقابل كل ما تركته لك
بل، وأزيدك الزنبق.
تضمني ذراعاك المعشوشبتان
- أحب هذين الفنارين
المجهولين! -
وتقبلني كامرأة..
ماما ميتة، تذكر جيدا
ولا أقوى
من ساعتها
على تغيير عنواني:
قصاد قسمة كهذه
وككل مرة أنا رضيت..
لن يحبني أحد مثلك كأمه.
نحن بالتأكيد ملائكة
فلا نخطئ أبدا:
فقط حين ننسى الأجنحة
هكذا على المشجب
أو تتركنا أمهاتنا
لسبب غير معقول بعد.
وإلا بربك أخبريني
لماذا في كل الصور
التي اخذتها لك بعد أن رحلت
كنت تبتسمين؟!
8
أفضل ما يمكننا القيام به
لرد الجميل للأيام
التي تنفلت من أيدينا دون هوادة
ككلب جد آبق
ألا نمزقها
ثم نزيحها جانبا
تمهيدا للتخلص منها
فيما بعد
فلن تكف أبدا عن العواء.
فقط
كل ما ينبغي علينا فعله
أن نقلبها على وجهها
ونسطر قفاها
باسم مسكن سريع المفعول
خاص بالعظمة
للإتيان به من الأجزخانة،
أو نقوم بطيها على نفسها
أكثر من مرة
أرملة
نحشرها بمهارة
بين زجاج الشباك وخشبه
لتصد عنا صخب الحياة
بالخارج.
صغارا كنا نظنها
أوراق لعب
للعبة لم نعرف كنهها على الإطلاق.
أحيانا نقودا
نكتنزها بشكل عجيب
ونخشى عليها
من الضياع
على أية حال
ليس هنا بالتأكيد..
عملة لبلد آخر.
هكذا..
علينا دائما بحيلة أو بأخرى
الحول دون إلقائها
مباشرة
في القمامة.
الخلود؟!
الأيام صارت كبيرة الآن
ولم يعد يصح
ترديد مثل هذه الترهات
أمامها
منذ احتفظت بها
ممهورة بخط يدك
دفترا للوصفات الطبية
وقت أن قمنا
بافتتاح مستوصف صغير
أنا وأنت
في حجرتنا:
أستطيع الآن قراءتها.
9
وهو كذلك.
لديكم مقعد شاغر
في الباص..
يخص جون الذي تغيب
منذ مساء البارحة
نعم، أعرفه
لن يأت!
ولدي حقيبتي.. ها هي:
بها أنبياء الله - طبعة متأخرة
وأشعار كثيرة سأكتبها
وقميص تم ضبطه متسللا
لمرات عدة دوني
بواسطة حرس الحدود.
خذوني معكم إذن،
فلن يتمكنوا من تمييزي
بينكم
بوجه فرنسي،
وانجليزية
تقرأ وحدها والت ويتمان
كجريدة في الصباح
مع قهوة مرة.
والطائرة؟!
حسنا،
أمر يسير للغاية:
لي ابن عم في قرية البضائع
يمكنه أن يرتب لي
تنكرا متقنا
في هيئة أوراق بردي، مثلا.
يطيب لي أيضا أن أصبح
قطا أسودَ،
أو تذكارا من الألاباستر
وإذا لم يُجدِ هذا كله
أعرف عصفورين
دفعة واحدة
طارا في نفس السماء
التي تطير فيها
تلك الطائرة.
لاحظوا بيننا
صفات جد مشتركة
تحبون مثلي الشيشة
سأضعها كجملة اعتراضية
هنا على المنضدة
لتروها جيدا:
أنفقت عمرا كاملا من قبل
في هكذا بقللة
ياااااه،
كم أحب رائحة التفاح!
أنا قادم معكم
لكن المشكلة ككل مرة:
وحين يتأخر الليل
ويأتي صبي القهوة
على زجاجات الشيش
ليسيخها
أكون قد تعبت
من كثرة التخطيط
للهرب
فيرفعني
على رف شيش التفاح
هنا
لأنام حتى..
قبل موعد الإغلاق.
10
ليس بوسع الصباح
أن يزيل معي بقعة زرقاء شهية
كهاته التي بقميصك
بقماشه العذب الحنون.
أنا أخرجه كل يوم
من خزانة الملابس المفتوحة
حيث تركته معلقا هناك كذكرى.
أُكثر من وضع المسحوق
والمبيض
إلى ان تصبح مفردة مثل ألم
غير مرئية تماما
بعد هذا أستطيع كيه:
أحتويك بين ذراعي
طفلا صغيرا
أرفعك في الضوء
أملس مقدمة صدرك
أربت على كتفيك
أمسحهما بمارون خفي
لتسقط دموعي أسفل قدميك
ضابطة في النهاية وضع الكسرة.
11
فقط أمر في الشارع
فتضيء لي أرواح الراحلين
واحدة واحدة..
ها هو المضطجع منهم
فوق سور الشرفة الحديدي
يتلمس برودته
أو متوسدا الهوائي
التقط موجة بالكاد بعيدة.
أما هذه فنجوى راقصة باليه
في استعراضها الأخير
دون مشاجب
على نبتة اللبلاب
الصاعد دون مواربة لأعلى.
وأما ذلك المستحم في صينية القلل
أظنه وائل!
كان نائما وأنا أهم بالشارع
الآن يغسل وجهه.
ناهيك عن أصغرهم حسام
لاعب الترابيز الأمهر بين شباك وآخر
رغم حداثة سنه.
هكذا عن اللقاء..
لا يتخلف أحد
وجميعهم يضيئون:
ضعف حيلتهم سيتبدّى بطريقةٍ أخرى
كزينة بين البيوت.
12
أنا وحياتي
كعقربي ساعة
كثيرا ما تتخطاني مسرعة
ولكني دائما..
ما أسبقها!
على هذا حين نلتقي
تدق الأجراس
فرحانة
ويخرج عصفور
ينقر الهواء
في صدر ميريل ستريب:
ليست هذه ثانية أبدا.
تعليقات
إرسال تعليق