القائمة الرئيسية

الصفحات

قصيدة النثر عند لويس جنكنز / ترجمة وتقديم : تحسين الخطيب

 قصيدة النثر عند لويس جنكنز

ترجمة وتقديم: تحسين الخطيب


قصيدة النثر عند لويس جنكنز - ترجمة وتقديم: تحسين الخطيب - بيت النص


قصيدة النثر، عند لويس جنكنز، قصيدة شكليَّة formal، ومستطيلة rectangle. شكليَّةٌ من جهة كونها "بلا حدود معيَّنة"، ومستطيلة من جهة احتوائها على الأشياء الضروريَّة فقط؛ كحقيبة سفر صغيرة، موضَّبة بعناية فائقة. هي فتنة الأثر المتبقِّي من رحلة غامضة، حُرَّةٍ، ومرنةٍ "تُحسِنُ وفادةَ الصُّور المتدفقَّة من اللَّاشعور مع السَّرد المنبثق من الشعور في آن؛ تاركةً للغةٍ هي غنائيَّةٌ أن تتعايش مع تلك التي هي نثريَّةٌ. إنَّها تجسيدٌ لفكرة أن تكون القصيدة "بلا وزن أو قافية، وبلا نظام تقطيع/تشطير line-breaks، مفروضٍ سلفًا. إنَّها تتعلَّق بـ"تحقيق التَّوازن" بين شكل بلا حدود وطبيعة كامنة. يتوجَّب علينا، في كتابة قصيدة النثر― على حدِّ قوله― أن نمتلك القدرة على اكتشاف متى يكون الكثيرُ كافيًا، ومتي يصبحُ زائدًا عن الحاجة، يحرف القصيدة عن غايتها، فتغدو أيَّ شيء آخَر إلَّا أن تكون قصيدة نفسَها: قصَّةً، روايةً، مقالة، أو ربَّما ما هو أسوأ من ذلك كلِّه! قليلًا ما يكتبُ لويس جنكنز خارج النَّوع، وإن احتوت مجاميعه بعض قصائد الشِّعر الحُر free verse. يعدُّه روبرت بلاي واحدًا من أكثر شعراء جيله حذقًا ومهارة و "سيَّد قصيدة النَّثر المعاصر" الذي يُصوِّرُ الفكرةَ على نحو أقلَّ ممَّا هي عليه في الواقع، فيمنحنا القُدرةَ على اكتشاف كُنْه القصيدة وغايتها. تلك القصيدة التي يكتبها "عاشق عظيم للعالَم"، كما يصفه تشارلز سيميك. ففي القصيدة، عند لويس جنكنز، "تنتصبُ الأشياءُ وحيدةً، غير مُدرَكةٍ، ولكنَّها نيِّرة! إنَّها، حقًّا، القصيدةُ التي تمنحنا "طعمَ العُزلةِ الأمريكيَّة البدائيَّةِ، إن كانَ ثمَّةَ" . . . .



بيضة عيد الفصح الأوكرانيّة

لا تشبهُ المألوفَ من بَيْضِ عيد الفصح الأوكرانيّ بسببٍ مِنَ الصّور. على جانبٍ، تغربُ الشّمسُ عن لوس أنجيليس، وعلى آخرَ يجثمُ جنودٌ في خنادق مُوحلةٍ؛ يلفّهم بردٌ ويدخّنون. هُوَذا الكمانُ المخبوءُ في قِدْرِ حساءٍ وها فصيلةُ قططٍ تحيا في محطّة بنزين مهجورةٍ. ثمَّةَ صورٌ كثيرةٌ: السّلكُ الشّائكُ والطّريقُ عبر الغابة، البطُّ، والرّاديو والحرائقُ الصفراء الدّاخنةُ على طُولِ دربِ سكّة الحديدِ حيثما تأخذُ العشَّاقَ الخُطَى. وفي الصَّباحِ، يقررُ شيوخُ القرية ما يجبُ: لا بُدَّ أن يمتطي رجلٌ شجاع صهوةَ أسرع حصانٍ ويُسلِّمُ البيضة. الرحلةُ طويلةٌ والطُرُقُ خَطِرةٌ. لَنْ تُوهَبَ البيضةُ إلى أحدٍ، بَلْ لقيصَر.


زوجةُ حافر الآبار

في ليالٍ قائظةٍ، كهذهِ، تخطرُ في البالِ جبالٌ، أَوْ مَا إلى الآنَ، إفريزُ النّافذةِ عالياً فوقَ سريري وحيرةُ الملاءاتِ هذهِ. لا بُدَّ أنَّها باردةٌ، هناكَ، بنسيمٍ يهبُّ من النّافذة المفتوحةِ، أبيضَ ناصعاً، مرسوماً كالثّلجِ. لا كثيرةَ بردٍ أو مطرٍ ولا شاهقةً كرأسِ جبَلٍ بلْ كسهلٍ عظيمٍ يمتدُّ أميالاً. مرّةً، في الصيفِ الفائتِ، هُناكَ، قادني الرّحيلُ؛ لا شيءَ معي غير بعضِ ما أحتاجُ: القطَّ، والمرآةَ وحفنةَ إِبَرٍ. آنئذٍ، عادَ إلي البيتِ وأمسكني؛ كسَّرَ ضلعَيْنِ، وغرزَ رضَّةً مُروِّعةً في خدّي. الآنَ، وفي كلّ يومٍ، يتعاظمُ صوتُ الحَفْرِ خافتاً أكثرَ. ضاعَ صوتُ الجزمة التي تشقُّ الطّينَ، بقسوةٍ، وتنحدرُ الصخّورُ لأميالٍ، تَحْتِي.


كانزاس

كلَّما تشتمُّ الملاءاتِ النّظيفةَ، تعنُّ على بالِ زوجةِ المزارعِ سنواتُ 1930. تجلدُ الرّيحُ الثّيابَ على حبلِ الغسيلِ، وتُطيِّرُ الفستانَ مُلتزًّا بين ساقَيْها الوافرتَيْن. في ثوبهِ الفضفاضِ، بينَ سِنينَ مِنْ مكائنَ محطّمةٍ خلفَ الحظيرةِ، يفتّشُ المزارعُ. بينَ أزهارِ عبّادِ شمسٍ طويلةٍ، بينَ أوكار الأرانبِ والفئرانِ، ومفتاحُ ربْطٍ في يدهِ. يبحثُ عَنْ قطعةِ غِيَارٍ بعينها، وعن واحدةٍ قد تَنفعُ. تستلقي في الوحلِ، حيثما يفيضُ الخزَّانُ سبعُ أبقارٍ عجافٍ. وعبر أصيلٍ طويلٍ تواصلُ طاحونةُ الهواءِ ضخَّ دفقاتٍ طويلة من ماءٍ بارد.


ثلجٌ أوَّل

عند الغسقِ يكونُ الثّلجُ قد ذابَ قليلُهُ. ثمَّةَ قِطَعٌ صغيرةٌ مُعتمةٌ يتطاولُ فيها العشبُ، مثلما من طائرةٍ تُرى جُزرٌ في البحرِ. أيُّها موطني؟ ذاكَ الذي هجرتهُ طفلاً؟ كلُّها، الآنَ، متشابهةٌ. ما الذي صارَهُ والداي؟ وماذا عنِ الأشياء التي بدأتُها ولم أنتهي منها قطُّ؟ ماذا كانت؟ فكلّما تقدّم بنا العُمْرُ صرنا وحدنا أكثر. يُقاسِمُ الرّجلُ زوجتَهُ نعمةً، كهذهِ النِّعمةِ. إنّها طعامَهم الصباحيَّ: قهوةٌ وصمتٌ وضوءُ شمس الصّباح. يتطارحانِ الغرامَ أو يتشاجران. يتحرَّكانِ طيلةَ النّهارِ؛ هي على المربعات السُّوْدِ وهو على البيضاء. وفي الليالي، يجلسانِ قُربَ النَّارِ؛ هُوَ يقرأُ في كتابهِ، وهي تحيكُ. مهتاجةٌ هيَ النَّارُ، وفي المدخنةِ، تنعبُ الرِّيحُ كطفلٍ ينفخُ في زجاجةٍ، بحبورٍ.


فترةُ استراحة

مَيْتَةٌ هيَ الكمنجاتُ. مَيْتَةٌ آلاتُ النَّفخِ النّحاسيّةُ. منذُ قليلٍ، فرغتِ الأوركسترا مِنْ كونشرتو لباجانيني. آلاتُ الجهير والتشيللو مُلقاة على الأرض أو تتكئُ على المقاعد، متعبةً وبلا أيِّ معنى. إنَّها كمثلِ جنودٍ أو مساجينَ في فُسحةٍ من عشرِ دقائقَ ولا سجائرَ معهم. وفي ركنٍ قصيٍّ، مُتشّحاً بالأسودِ، ينحني قارعُ الطّبولِ كغرابٍ أسودَ ينهشُ أرنباً قُتِلَ على الطّريق العموميَّةِ أو كعجوزٍ تنحني على قِدْرٍ يَغلي بالسُمِّ الذي ستدهنُ بهِ أعمدةُ الهاتفِ كي تقتلَ كلَّ طيور نقَّار الخشبِ. هُوَذا يدوزنُ الطّبلَ ويختبرُ صوتَهُ. ماذا تُراهُ يسمعُ؟ عاصفةً قصيَّة؟ قطيعَ جواميس؟ ربَّما عمّالَ سكّة حديدٍ يكدحونَ كي يُمهِّدوا الطّريقَ بضعةَ أميالٍ أمامَ القاطرة؛ العرباتُ مُزوَّدةٌ بوافرٍ من سجاجيدَ وبلَّورٍ ونبيدٍ مُصفَّى. تصلُ السيِّداتُ الجميلاتُ والسَّادةُ؛ ضاحكينَ، يثرثرونَ بينَ المماشيِّ كي يجدوا مقاعدهم.


الأعمى

بزاويةٍ واهيةٍ، ينحدرُ من التلَّةِ إلى الرَّصيف؛ مُتحيّراً، مُتنقّلاً بعصاه البيضاءَ ذات الرَّأس الأحمرَ من طرفٍ لطرفٍ حتى يلمسَ الإطارَ المعدنيَّ لسيَّارة "بونتياك" خُزامِيَّةً، واقفةً عند حاجز حافّةِ الطَّريق. يتوقّفُ. يتلمّسُ بشِمالهِ حتى يلمس ساريةَ المعدنِ الباردِ الحامل لافتةَ "ممنوع الوقوف"، يجرُّ نفسَهُ قريبًا، يقفُ وذراعُهُ تطوّقُ السّاريةَ في الفراغِ الضيّقِ بينَ العَرَبة وبينِها. ينتظرُ ويُنصِتُ. يبدو مُرتاباً غيرَ مُتيقِّنٍ، غيرَ قادرٍ أنْ يَمِيْزَ الأصواتَ، بعضَها مِن بعضٍ. حركةُ المرورِ يميناً، حركةُ المرور وراءً، والريحُ التي تهبُّ مِنَ البحيرةِ أعلى التلِّ، وصوتُ بعض وريقاتِ أشجارٍ على الكونكريت. لا أثرَ لعابرٍ. هِيَ آخرُ النَّهار، هِيَ آخرُ الخريفِ. يُنصِتُ؛ الرأسُ مرفوعٌ قليلاً، والقبّعةُ مائلةٌ للخلفِ والعينانِ مُغمَضتانِ. هُوَ ليسَ فتيًّا أو عجوزًا، بل رجلٌ بينَ عربةٍ وساريةٍ. ينتظرُ زمنًا طويلًا. ينتقلُ بعصاهُ ذاتَ اليمنِ، إلى الدَّواليبِ الخلفيَّةِ للعربة، ثُمَّ بعيدًا ذاتَ الشَّمالِ. يُعتِقُ السَّاريةَ، وينحدرُ خطوتَيْنِ حذرتَيْنِ نحوَ سفحِ التلَّةِ، مُطلِقًا إلى الأمامِ عصاهُ.


قصيدةُ بوحٍ

ثمَّةَ وشمٌ ضخمٌ على صدري. إنَّهُ كحلمِ يقظةٍ. أراهُ في المرآةِ عند حلاقةِ ذقني أو تنظيف أسناني، أو حينَ أُبدّلُ قميصاً أو أُطارحُ الغرام. ماذا أفعلُ؟ لا أذكرُ مِنْ أينَ جاءَني. هَلْ عشتُ، في السَّابقِ، حياةً كهذهِ؟ إنَّ ثمنَ إزالة وشمٍ ضخمٍ، كهذا، يفقدني صوابي. ما زالت رائعةً صَنْعَةُ الرَّسمِ: منظرٌ طبيعيٌّ، بحجم 8 بوصاتٍ في 10، بألوان خصبةٍ، يُظهِرُ، قَطعياً، مُنحدراً من جبلٍ صوبَ قرية رعاةِ بقر. شابٌّ، يُمكن أن يكون جدّي، في ثيابِ رعاةِ البقر يحملُ بندقيّةً، ينتصبُ في أعلى التلّةِ ويشيرُ الى القرية. يقولُ التعليقُ الذي أسفلَ الصّورة:" يا إلهي، لم أدرِ بأننا قد قطعنا كُلّ هذه المسافةِ، غرباً ".


مكانٌ هادئ

جئتُ لأفهمَ حُبِّي لكِ. جئتُكِ كمن مَلَّ العالمَ، أبحثُ عن مكان هادئٍ. محطّة البنزين والدكَّان، الكنيسة والمدرسة المهجورة، بعض منازل عتيقة والنّهر بمواضعه المُظلّلة الباردة...صيد الأسماكِ الوفير. لطالما اشتهيتُ مكاناً مثل هذا. فلقد عرفته مُذ وطأتُهُ. غداً، ستصل فِرَقُ الإنتاج والتّصويرِ. سنقدرُ، يوم الاثنين، البدءَ في تصويرِ قصّة رجلٍ يبحثُ عن مكانٍ هادئ.


فائضُ الحرب

ممشى بعد ممشى مِنْ خيامٍ وخاكيٍّ، خُوَذٌ ومعدّاتُ أكلِ جنود، حقائبُ تخييمٍ، معاطفُ بحّارةٍ وأقنعةُ غاز... هُناكَ، ثمَّة حقلُ طائراتٍ مهجورةٍ، من كلِّ طراز: بي 38، وبي 25 . . . كلُّ ما عليكَ فعله أنْ تنتظرَ العتمةَ: اِقفزْ فوقَ السّياج، جُرَّ الدواليبَ مِنْ بكراتها ثُمَّ اقفز إلي الدّاخل. أَدِر المُحرّك وأدْرُج حتى الشّريط. لا أبسطَ من ذلك. ويمكنك الطَّيران بلا أيِّ معرفة مسبقةٍ.
امرأةٌ جميلةٌ بثيابٍ سوداءَ تجلسُ على مقعدٍ طويلٍ قُرب قبر. رجلٌ طويلٌ ببزّةٍ عسكريّةٍ يقفُ بجوارها ويدٌ على الكتفين. "كثيراً ما أجيءُ إلى هُنَا، يا له من مكانٍ هادئ"، تقولُ المرأةُ." قبل أن يموت جون، طلب أنْ أرعاكِ "، يستدركُ الرّجل. يتعانقان. خلفهما، صفوفٌ مُحكمةٌ من صُلبان بيضاءَ تنتشرُ فوق تلّة خضراءَ حيثُ، شامخًا، يخفقُ العَلَمُ.
تُصدرُ المحرّكاتُ أزيزاً خفيضاً؛ صوتَ عزاءٍ، والضّوءُ المنبجسُ من لوحةِ التحكّم يخبرك بأن كلّ شيء ثابتٌ وقويمٌ. غيومٌ، في الأسفل، مخضولةٌ بالفضَّة، وقُرى أعداءٍ بالغةُ الصِّغر: قُرى دُمَيً رائعةٌ يضيئُها قمرُ قاذفِ القنابلِ.

تعليقات