القائمة الرئيسية

الصفحات

أشبه الماء / مختارات من شعر جيهان عمر

 

أشبه الماء

مختارات من شعر جيهان عمر


أشبه الماء - مختارات من شعر جيهان عمر - بيت النص



1

أشبه الماء
أتدفّق دون أن أعلم إلى أين!
فكلّما وجدّت شقّاً أشقّ طريقي..
لا أستطيع التوقّف حينما يكون التوقّف ضرورياً
أجدني في أماكن غريبة
لم أكن أخطّط للذهاب إليها
فقط لأنّني قابلت منحدراً
أحياناً يكون الماء قوياً.. أحياناً بلا إرادة
لا يعرف خطوته القادمة
ولم يستطع أحدهم أن يقبض عليه بأصابعه
لذلك أفشل دائماً في الحب
كل رجل يعتقد أنني هنا
يجد يداً فارغة
يتعجّب من وجودي واستحالتي
بداية من رشفة واحدة تبلّل الظّمأ
وحتى الطّمع الذي يجلب الغرق
أعرف أنكم تموتون من دوني
ومع ذلك تهدرونني على العتبات ببساطة
تعودّت ألّا أتحدّث
صامتة مرّة
أو هادرة
أجرف الأشجار كهواية
وقد أدفن في طريقي بعض المدن
في لحظات الغضب يبتعدون
وفي لحظات السكون يتأمّلون صفحتي في شرود
أطفئ النار
ولكنني أخلّف وراءها رماداً لا يزول
لن يعرف أحد كيف يتنفّس بداخلي
السمكات فقط هي التي تلهو في قلبي
خياشيمها الداكنة لعبتي المفضلة
لا تنخدعوا بتلك الشفافية التي أتنكّر فيها
فقد أحيل صخرة عملاقة إلى حصاة ببعض الدأب
أتفجّر وسط الصحراء عيناً لا تحتاج إلى جفن
لا ترغب سوى بالعطشى العابرين
فتمنّ عليهم بحياة مؤقتة
يحلو لي أحياناً أن أتجمّد
أن أصبح مكعباً بحوافٍ حادة
لوقت قليل أنتظر مشروباً معتّقاً
ثم أترنّح
في وقت آخر
أبدأ في إزاحة كل شيء من مكانه
فتتحوّل حياتي لشلّال لا يرى
ثمّ
أغلي داخل الإناء..
حتى أن الفقّاعات نفسها تشفق عليّ
أتبخّر..
أتعلّق بغيمة
أنتظر الشّتاء
أسقط مع المطر
أسقط
قطرة.. قطرة
قطرة...


2


تكتب عن الحب
بينما تعمل العائلة في تجارة الأسلحة
أي ورطة تلك ..
حرف واحد يبدل المعني
أو يفجره ..
الراء المحتالة ..
تنخر قلبها مثل خطاف حادة
تتجاهل أخبار الحرب
بغلق التلفاز ..
وتخبئ غلاف رصاصة
يظهر دائما على أرضية الغرفة ..
تغلق صفحتها الشخصية وتفتحها
مروحة ورقية ..
تقابل الأصدقاء بحنان ثقيل
تعتذر لهم عن كل موت يحدث في العالم
إرث أثقل ظهرها ..
فشلت محاولات التخفف
حتى انقسم عقلها
كجناحي فراشة ..
تكتب قصائدها في الصباح
تتجنب محادثات العائلة في الليل
حيث يتناولون النبيذ
وهم يمضغون مكاسبهم الضخمة
من الصفقات ..
هي في طرف المائدة
يحتضن الفصام
روحها
ويقضمها في تلذذ..


3

لا ترتدي الأبيض
يجعلك نقية
لكنه يكشف ضعفك..
لا ترتدي الأحمر
يجعلك فاتنة
لكنه يفضح شهوتك..
لا ترتدي الأصفر
تبدين كقطعة من الشمس
لكنه يؤكد وحدتك..
ارتدي الأسود
الأسود فقط
ارتديه طوال الوقت..
الأسود الذي يقدس لون بشرتك
ويبدو كسماء تُسَبِّحُ لقمرٍ
الأسود الذي يشعرني بأني مِتُّ
وأنك في فترة الحداد..
تمزجين دموعك بحبات البن
وتضيئين الشموع
في دولاب ملابسك
لترقص فساتينك الملونة..
احتفاءً برحيلي.


4

منذ أحببت ركوب الدراجة
وأنا لا هم لي ..
سوى حفظ التوازن
أنظر أمامي
لا ألتفت إلى الخلف
حتى لو سمعت سبابا واضحا ..
أتفادى المركبات الضخمة
لا أثق بالسكارى ..
لأنهم يقفون أمامي فجأة
فأرتبك..
أتجاهل العيون المحدقة
لا أفهم من الحوار سوى جملة جانبية
كل الأشجار تمر مسرعة ..
الهواء فقط
يحتضنني كحبيب ..
لا أستخدم جرس التنبيه..
أعتمد على ذكاء المارة
بحركة مراوغة أتفادى حصاة صغيرة
قد تفسد كل شيء
في لحظة..
لا أخاف من مرتفع
لأنه سيترك عضلات الساقين أقوى..
السهل المنخفض أكثر ما يخيفني
فأضحك كثيرا
بينما كنت أقصد الصراخ
أنتظر الاستواء مرة أخرى
أغمض عيوني
أفتح ذراعي في الهواء لأقل من دقيقة
أتذوق تلك
المتعة الخاطفة
ثم أتشبث بالقيادة
مرة أخرى .
لا أغضب ..
حتى لو سقطت وردة عباد الشمس من شعري
في الطريق
كل الأشياء تسقط
حين تنضج ..
ما زالت نفس الهواية تأسرني ..
عينان على الطريق
والهواء يحتضنني كحبيب ..


5

كانت تزرع الشوارع الرئيسية
جيئة وذهابا
بشعر لم يذق الماء ..
لكنه مفرودا في خصلات طويلة ملبدة ..
وتجر خلفها حقيبة سفر ..
لا تتحدث
أو تتحدث دون صوت..
لا أحد يعرف ماذا تقول
حينما تضاء نافذته
تقف فجأة ..
موجهة حديثها
للنافذة المضاءة
رغم المسافة
تبدو الكلمات موجة ترتفع في الهواء
تحدق طويلا
قبل أن تفرد شالها على الأرض ..
ثم صرت نافذته الصغيرة ..
مثل قمر..

6

فقدت عقلي
اجتُثَّ من أعلى رأسي كشتلة بازلَّاء
صار رأسي مجوفًا وفارغًا
لم أتألم
لم أشعر حتى بشيء غريب
كان الفراغ كبيرًا لكنه ليس مؤلمًا
هواء يرتطم
أو ينحدر كما لو أنه فوجئ بحفرة..
لم ينتبه الآخرون
كأن يبلغوا المصحة العقلية بما حدث
كنت أمُرّ أمامهم بهدوء
فلا يلتفتون إلى رأسي الفارغ
كان عليَّ أن أملأه
مثلًا
زهرة قنَّبيط مكان العقل المسروق
سأثبت جذعها في الداخل
كأنني أغرسها في حوض زهور
وأترك الزهرة تطل بخُيَلاء
سيعرفون هذه المرة بالتأكيد
تثيرهم رائحة الكبريت
الطزاجة اللافتة
يسألون عن سر الثمرة
التي نبتت فجأة
سيعتقدون أن خيالي شفاف
لأنهم يشاهدون ما يحدث بالداخل
بامكانهم الآن رؤية كل الحافلات
والثمار التي تمر في رأسي..
يشمون رائحة زرع جديد
يثملون
كي ينجو السارق بفَعلته.


7

لا أدري لماذا يرغبون في الخلود
بينما لا أريد أن أترك شيئا ورائي
كلما راودتني الفكرة
أتبرع بملابسي ..
والكثير من الكتب ..
أحيانا بعض اللوحات ..
أحب أن أهب الأشياء التي عشقتها يوما
لأعلم نفسي ..
أن العشق نفسه فكرة مخادعة
أتخفف من تلك العقول المكدسة في المكتبة
فأشعر بالحرية ..
لا يجب أن يعيش المرء مع كثير من البشر
وخصوصا لو تفاوتت بشدة قدراتهم العقلية
فمن الذي وضع كتب الفلاسفة
بجوار هذه الرواية التافهة
مهزلة حقيقية على جدران البيت
لذلك أسمع تلك الصفعات
كلما ذهبت للنوم
فهذا الروائي العظيم لم يكن يكره إلا الغباء
أعلم أنه هو الذي أزاح الكتاب التافه من طريقه ..
لأعيد ترتيبهم في الصباح ..
أنظر ممتنة إلى الفراغ من حولي ..
لأنه هو الحقيقة الوحيدة
في النهاية .


تعليقات