شجرة الجنارك التي تحولت إلى ميرابيل
مختارات من شعر ميس الريم قرفول
1
أفتح نافذة صغيرة
مطلة على الشمس
أشعر برائحة قريتي تهب من وراء الشجر
البيوت صامتة
وكذلك النوافذ
ينظر إليّ بغرابة
هل لأني غريبة عن هذا البلد؟
عيد الحبّ ترك جسده ملقىً على الطريق
نور مصباح البلدية مستند عليه
مثل زجاجة كحول رُميت على عجل
أتساءل هل هو كحولي محترف، أحاول لمس يديه، النظرَ جيداً في ازرقاق عينيه، تلمسَ الكدمات البضّة المتروكة عليه كأزهار
ما أحلى أن تكون عابراً، فيك نبض، لكنهم ينظرون إليك بموت
ويكتبون فيك القصائد
ثم تقوم سرّاً لتمشي بعكازين
نحو الهاوية
أو نحو جبل مسنن
تلتقي بظلك، بوهمك
لأنك مهرج وتعرف الضحك ساعة اللعنة
والانطفاء
ساعة انغلاق الأضواء على نفسها
ولحظات سقوط المطر وهبوب الرياح التي تلعن نفسها بنفسها
يقولون بأن رئيس الدولة سيأتي غداً
يغلقون الطرقات
ترمي نفسك مثل محرمة مستعملة داخل الحشر
تنتظر أن تنتهي الأمور على أمر جيد
وتنظر إلى تلك الحشود من الشرطة
بحر من الجليد الأسود
إذا استلقوا جميعاً
تحولت الدنيا إلى طرقات مزفّتة
إذا استلقوا
لكثرة ما هي ثقيلة أجسادهم
وتلك العدّة
2
وكان كلُّ تنفّسٍ عصفوراً
وامتلأت الدنيا بالعصافير
وعرفت بأني ميتة من وفرة الحياة فوق صدري
وعرفت بأني حيّة من كثرة الموت الذي لا أعرف عنه شيئاً
وضحكت حين قالت صديقتي أنها تخشى كلمة موت
وقال لي الطبيب ربما أنت مصابة بالربو
وقطعت زهرة عن الطريق لأضعها في شَعري
ومددت لساني للربيع حتى يبتلّ
وطحنت غبار الطلع عليه حتى أصبتُ بالنعاس
وعطستُ
كانت العاصفة قوية
وكلنا قلنا ربما مرضنا بسبب هذا الهواء الكثير
فهو قد يحمل حروباً لا تعرف كيف تغادر أراضيها
ودماء لموتى يدورون داخل طاحونة فارغة.
ووقعَ فيلم سينمائي صامت داخل سرّتي
وصرت أدور حول نفسي
ثم تلونتُ
ودخلت العصر الجديد
يرافقني صوت خشخشة ورغبة بوضع الحنّة على شعري
وقطعت نفسي مجازاً حين رأيت المدّ
وقلت بسريّة أنا الموجة الجديدة المُقتطعة من بحرٍ أخضر.
3
صباح سيء
مثل زهرة لوز ماتت قبل أن تتفتّح
زهرة اللوز التي تفتحت في الشتاء وماتت في الشتاء
ومع ذلك
قررتُ أن أرتدي ثوب الرقص الياباني المطرز برسومات غريبة، أن أشد الحزام على خصري، الحزام الحريري الشفّاف، أضع فلّتين على صدري وأن أترك روحي
صباح سيء
أخبار تتراكم كسرب غربان لا لون لها
وأعرف أني كنت ألعب لعبة "الدويخة" في هذه الحياة
ففي كل يوم أستيقظ وعلى فمي دم وشهوة
لكن ثمة صباحات أفيق وأعرف أني وقعت على رأسي
وبجانبي كيس من الذكريات
مرميّ على الرمل
الرمل الذي هو قميص للبحر
وها أنذا تعلّمت الوقاحة في الكلام الشعري
فهو وسيلتي الوحيدة لأكشف روحي من خلف قضبان وهميّة
لا معنى لها
والآن بات صوتها هو صوت المفاتيح على الكمبيوتر
صباح مثل زهرة لم ترَ الربيع
أرملة
بزرٍّ منغلقٍ على نفسه
تشعُّ شمساً محروقة
وثمة ندى بعيد يشيرُ بفيضه
ومع ذلك علينا أن نكمل، أقولها لك في بيتك البعيد
أنت الذي تحولت إلى نجمة منطفئة
لأنك لم تكن تفهم الشعر
أقول لك سراً، ولا أنا أيضاً
فقط تعلمتُ الوقاحة في الكلام الشّعري وقلت أقشر أزهاري
أزهاري التي لا وجود لها
مجرد لوحات عمياء في متحف حديث
كثير من الورق القرمزي أمام البوابات
كان علينا أن نزور مدريد وميلانو ونابولي سوية قبل أن يعمّها الصمت
كان علينا أن نهرب من المتاحف بسرعة الريح
لأن ثمة مياه جامدة في عروقنا
نحن القادمين من سوريا
كان الرعب قد تجمد في منطقة ما من وجهنا، ربما هي تلك الشامة التي لا تظهر على خدي إلا في الربيع
أحب أن أتوهّم
أن أصبَّ المزيد من الوقاحة
ربما كأسُ شاي ساخن
على خلفية بيضاء
هشّة
باردة
من العالم
4
سألوّن شعري أحمر
سأكون شجرة الجنارك التي تحولت إلى ميرابيل
...
يسمونها هنا ميرابيل، أو رين- كلود
ألا يصلحان اسمين لابنتين لن نلدهما؟
كنا نسميها في سوريا جنارك
ولم نكن ننتظر أن تحمرّ
حتى تسافرَ إلى لونِها
نتلذّذ ُبشبابٍ يُعطى لنا
لمّاحِين في اصطيادنا
ونعصرُ على ألسنتِنا لننقذَ ما ينفذُ لنا من أسرار
حين يرونني آكلُها خضراء يستغربون مني
أتحول إلى جرذ للفواكه ما أن يأتي شهر أيّار
أخرجُ من عُزلتي لألمس رطوبتَها وماءَها الطريّ
حديثَ الولادة
كان الإزهارُ مسودّة
كان المطرُ الغزيرُ أبًا
وشرود
...
يظنونه شجرًا للزينة بورقه الكثيف والعاتم المشابه للورق التروبيكال
الثمار كهلة تشبه تلك الطرق
وثمة أسوار تفصلنا عن صباها وحلاوتها
مررتُ على عجزين
عجزي عن اختطاف طعمِها
وعجزها عن الوصول لرغبتي
لا بأس
بعض السُّكَّر يصير غيمةَ خمرٍ للّيالي والشوارع
شجر الأكّي دنيا غريبٌ في هذه البلاد
بلا حقيبة وبلا وصيّة يأتي
وبلا حقيبة ولا وصيّة يذهب
...
كنت أركض على ضفة الكانال دو ميدي (1)
ربما كانت عيناي ضعيفتي النظر، ربما كان الركض هو ما يحوّل كلّ شيءٍ إلى سراب
في طريق العودة انتبهتُ لأشجار الجنارك التي تمتدّ مسافة كيلومتر على طرف الماء
ربما كان طريقُ العودة جنّة
وطريق الذهاب بحثًا وركضْ
...
حين أمر بجانب البيوت ألمسُ الأزهارَ التي تخرج عن الأسوار
أعرف لونَ عنقِ أصحابِها من تويجاتها
أحاول القفزَ لالتقاطِ حبّة مُشمش خرجت عن حرفِهِ
لبنٌ تدفّقَ عن ثدي
يقول جاري: البلدية تسمح للعابرين بأكل الفواكه التي تخرج عن أسوار البيوت، لأنهم يتعدّون بظلالها وحفيف أوراقها على الملكيّة العامّة، لذا يستطيع الناس أكلَ الثِّمار من دون أن يكونوا قد تعدّوا على الملكية الخاصّة
هذا الفائض الذي تمنحه الأشجار
لا هويّة له
لا حدّ
ويعرف كيف يخلق مساحةً من الرِّضا
ليست مولودةً لا من فيء
ولا من شمس
بل من ابتعادهما واقترابهما
بعضًا عن البعض
ظلٌّ
وقفزةٌ للوصول إلى ثمرة
...
"مش ل حدا هالفيّ"
هكذا تقول الأغنية
لكنّ الفيءَ يختفي
وكذلك الأغنية
تحلّ عتمةٌ
تكسرِها أضواءُ الشوارع
أجرّب ولو لمرةٍ أن تصيرَ أنت قمرًا
أُغرقُهُ داخلَ كأسِ النبيذ
...
صنعتُ خريطةً وكتبت عليها " دليلُ السوري في بلاد الفرنجة للأشجار المُثمرة وغير المُثمرة"
لحسنِ الحظّ أني قريبةٌ من المتوسط
ثمة أشواكٌ تشابه الشّوكَ الذي كبر قرب منزلي
وثمة فواكه تخرج منه
مدّعية أن العالمَ طبقٌ واحدٌ مَرويٌّ بملح البحر
...
التّوتُ البريّ الذي كنا نسمّيه "ديس" في القرية
ينمو هنا على حوافّ الجسر الذي تعبره سكّة القطار
الأحمر الذي يتدلى في الأسفل في موسم الحرّ
هو دم خفيف يخرج من المسافرين
في كل سفر تذرِفُ قليلًا من العَرق
من شِحنات البرد
ومن عُمرك
هذا الديسُ المليء بالغبار
يحمل كيسًا كي يسافر
لكنه يبقى هنا
منتظرًا مروركم
...
دهنتُ وجهي بماءِ الورد قبل النّوم
شممتُ رائحةَ كنافة
واشتهيتُ نفسي
نمتُ وحلُمتُ بأشياء تسيل
ربما كانت ثمرًا مشويًا أو تلك الحلوى التي يحملها الآباء حين عودتهم من المدن الكبرى
حلاوةُ الجبن والكنافة وزنود الستّ
هشاشة محشوّة بمواد ذائبة
مغطّاة بالفستق الحلبيّ والجوز
حين كنت في برلين مشيتُ في شارع "جادة الشمس" (2)
كانت أطباق الحلوى وأسياخ الشاورما أوفر مما هي عليه في سورية
نقلَ الغريب مائدتَه في البحر
غرقَ طفلان
علقَ دِبس الرّمّان على الشجرة الصّهباء وتخفّى فيها
هو أفعى مليئة بالعاطفة والحموضة واللذّة
بقي الغريب في البلد
يحاول أن ينسيَ ابنَه طعمَ اللوزِ والفستقِ الحلبيّ والجبنة السائلة
على زنود الستّ
...
في مراهقتي كانت صديقاتي يعشقن الرجل الوسيم
كان غالبًا يملك عضلات بارزة
وأنا كنت أراقب من خلف الزجاج
ارتطامَ خشب الصدور بالكؤوس الشفافة
أنقل وجهك قشّة قشّة من عشِّ روحي
حتى يكتمل بتلك السّكَينة
أو بذلك الألم
كنت أرسم عليك وجوهَ رجالٍ وسيمين
وقُبلٍ يرميها المشاهدون بعد أن يخرجوا
من صالة السّينما
...
لن أطعمكَ الكرز إذا لم تأتِ إليّ
موجةً من بحر مجهول
سآكل كلَّ الكرز حتى أتعب
كما فعلَ زوربا
وحينها قد أصلُ إليك موجةً حمراء
مليئة بدمها ولذّتها
فهل يكفيك هذا؟
5
آتيك بشعري الكستنائي
كالذئاب يتمشى على وجهي
يترك نمشاً وليلاً يعانق رغبتك بي
وأنا مثل رائحة النار التي تطهو نفسها
أجمع النجوم وأرميها للسماء
كما ترمي سيدة
ماء خرج من ذهب غسيلها
على تراب الحديقة
ثم تغلق النافذة
هكذا يصير الليل علبة كبريت مُغلقة
تنسدل الستائر ويصفق الجمهور
مثل سقوط المطر.
لا داعي لأن أنفخ في عجين الأرض كي يتشكل جسدك
ولا أن أزرع النور من زبَدي كي يتلألأ
البحرُ ويمشي
في ظلّه
لا داعي لردم الجزيرة بمداها
سيلدعها موجٌ محترق
قادم من قلبها البعيد
وسوف تمتص شذى المراكب وحدها
كأنها نجمة صاعدة في حلق بئر
مثل أي امرأة أغرَقها الحبّ
6
فزاعات لا تعي معنى الحروب
في الأخبار
في الأخبار القديمة والأخبار التي تمشي إلينا مثل الزواحف
ثمة الكثير من المآسي
والدماء المتراكمة على الغبار
مثل زهرة عفنة
برائحة تشبه ثدياً بضّاً خرجَ ناجياً من المجزرة
من المآسي أحاول الخروج كالريح لما تخرج من المنزل المضطرب
أكتب عن الماء المُحتجزِ في البئر كأنه صرخةُ عروس لم تصل زفافها
عن العشب الطريّ
أهرب من البيت كي أكتبَ عن فزّاعاتِ القمح التي لا تعي معنى الحروب
ومع هذا واقفة
عن قدمين ذهبيتين لامرأة تنمو مثل الرمل قرب الماء حتى تصير حاجزاً أراقب القمر من ورائه
والكواكب
أهرب
ثم أقف أمام المرآة وأنا أتساءل
هل الشعر هروبٌ أم مواجهة؟
نزيفٌ أم تبخّر؟
شغفٌ أم أسى؟
7
دائما يهيّأ لي بأني سأختفي في آخر فيلم
يضعني ممثل بين شفتيه
بالأبيض والأسود
أو أتحول لغابة بالكاد مرئية
تحركها موسيقى وضعها ملحن سيحصل على جائزة الأوسكار
وسأحصل على المكان
والنفي
والهروب الذي أشتهيه
حين تصير الحيطان أربعة
والنافذة شقّاً
اليوم عيد الموسيقى
تمشي الآلات على الطرق
وكذلك حاملوها
ينتشر الغبار في تولوز
تحصرني في غلافها الجوي ولم
أنضج بعد
ولم أصر بلون الكرز الذي ترميه على سقوفها
كرز موشح ببلاطات بيضاء ورمادية
يحمل آلته ويذهب إلى فيلم آخر
لماذا تريدين العيش في الخيال؟ يسألني
بينما وهو يتكلم
يتفتت كل ما يقول إلى دهان مقشور
كيف تسقط السقوف علينا يا حبيبي
من دون أن ننتبه
8
لماذا تصير شاعراً
لأنك أكبر من الماء
بكلمة
بجملة
بقبلة
بمعادلة فيزيائية
بانتظار لأن يتبخر دخان قنبلة
أو ينغلق فم بندقية من الصراخ
تكتب لأنك على الكرسي وتفيض
أنت يد الدلو
فمه الممتد فضولاً للأمام
أنت وصفته الساحرة
نومه وربما حلمه
وتكتب
وثمة تجّار للكتب وباعة ويريدونك أن تكتب عما يبيع
وأنت وحدك تتبخّر في قصائدك
وهم يصعدون على القصائد بضحكة فاجرة
منفصلين وفي نفس المأساة مثل حبلي مطر نازل
وتكتب أيضاً عنهم
وتبكي داخل المطر
___________________________________________
(1) Canal du midi قناة مائية صناعية تصل مدينة تولوز بالبحر المتوسط.
(2) Sonnenallee أو ما يُعرف بالشارع العربي في برلين، شارع مليء بالمطاعم العربية والسورية
تعليقات
إرسال تعليق