مقتطفات من مقالات شمس تبريز
ترجمة مريم حيدري
التقى شمس الدين محمد التبريزي (582-645هـ)، مولانا جلال الدين البلخي عام 642هـK ثمّ حدث ما حدث لمولانا. الشيخ الزّاهد والفقيه الذي كان يدرّس في أربع مدارس في قونية آنذاك، ألقى الدّرسَ جانباً، وغدا ذلك الهائمَ المجذوب الذي نعرفه، ومن صرّح بنفسه: "زاهداً كنتُ، فجعلتَني مغنياً/ وجاثماً وقوراً على سجاّدة الصلاة، فَلَهواً لأطفال الحيّ".
ماذا قال شمسُ لمولانا، وما كشف له من أسرار، ذلك سؤال شغل الباحثين في حياة كليهما سنواتٍ طويلة، دون جدوى.
مكث شمسُ في قونية ستة عشر شهراً، ثمّ رحل إلى الشّام. لم يحتمل مولانا فراقَه، فأرسل ابنه إلى الشّام ليأتي به. عاد شمسُ إلا أنه لم يُطِل المكوث، فرحل موصياً ألا تتبّعوا أثري هذه المرة. تذكُر كثيرٌ من كتُب السّيَر أن الباري توفّاه في مدينة "خوي" الإيرانية القريبة من تبريز، شمال غرب البلاد، حيث كانت مسقط رأسه، فأصبحت مرقده.
هذه المقاطع قد اختيرت من كتاب "مقالات شمس" الذي دوّنه مريدوه من أحاديث وخُطب ألقاها هنا وهناك، وفق ما تذكر الدّراسات؛ فلم يكن شمسُ يكتب أو يدوّن أحاديثه كما يؤكّد حضرتُه: "الكتابةُ؛ تلك لم تكنْ عادتي أبداً. الكلامُ يبقى فيّ إذْ لا أكتبُه؛ يهبُني كلَّ لحظةٍ وجهاً آخر".
قالت رابعةُ:
"أرسلتُ القلبَ إلى الدنيا،
وقلتُ: شاهدْها!
وقلتُ: شاهدِ العُقبى!
ثمّ أرسلتُه،
وقلتُ: شاهِد الآن عالمَ المعنى!
ذهبَ،
ولم يعدْ إليّ".
أقوى على ألّا أدعَ حُزنيَ يذهبُ إليهم
إن ذَهبَ، فلن يُطيقوه،
ويهلكون.
إنهم لا يطيقون فرحي،
فكيف لهم أن يطيقوا حزني؟
نحن نملأ البطنَ محبةً.
وليس لنا هاجسٌ آخر.
أمّا الوحيُ، فهو شيءٌ لطيف،
ويعرفُ أين يُقيم.
ثمّ تبقى الرّوحُ،
وهي لها أن تَكونَ،
وإن لم تشأْ،
فلَترْحلْ.
لا ترضَ أن تبقى فقيهاً!
قلْ أريدُ الأكثرَ!
أكثرَ من التصّوف،
أكثرَ من العرفان.
كلُّ ما يأتيك، اطلبْ ما هو أكثرَ منه.
اطلُبْ شيئاً أكثرَ من السَّماء.
5
ساحةُ الكلامِ ضيقةٌ جدّاً.
ساحةُ المعنى هي الواسعة.
تجاوَزِ الكلامَ لترى السِّعةَ،
وترى السّاحة!
وانظرْ إن كنتَ البعيدَ القريبَ،
أم القريبَ البعيد.
6
أين "أنا"؟
لا أعرف.
إن وجدتَني،
بلّغْ سلامي إليّ.
7
إن أخذوني عندَ بابِ الجنّة،
سأنظرُ إنْ كانَ هناك
وإن لمْ يكُن
سأقولُ: "أينَ هو؟".
ثمّة من هو كاتبُ الوحي
وثمّة محلُّ الوحي.
اسعَ لتكون الاثنيْن -
محلّ الوحي،
وكاتبَ الوحيِ؛
لتكونَ أنت!
الحريةُ في عدمِ الأَماني.
ذلك الخطّاطُ
كتب ثلاثة خُطوط
واحدٌ قرأه هو، لا الغيرُ!
واحدٌ قرأه هو، والغير.
واحدٌ، لا هو قرأه، ولا الغير.
أنا ذلك الخطُّ الثالثُ.
سألَ البوّابُ:
"من أنتَ؟"
قلتُ:
"عسيرٌ عليّ أن أفكّر!"
سأقول في ما بعد:
"كان في ما مضى رجلٌ جليلٌ،
اسمُه (آدَم).
أنا من أبنائِه."
أنا ذلك الطائرُ الذي وصَفوه:
"يتعلّق بكلتا قدمَيه!"
نعم، أنا أتعلّق،
ولكن
في فخِّ الحبيب.
ليس لي إلا أن أتحدّث مع نفسي
أو من أرى نفسيَ فيه،
فأبوح له.
في باطني
بشارةٌ.
ولي عجبٌ كيف لهؤلاءِ أن يَسعدوا
دون البشارةِ تلك؟
العبارةُ ضيّقة.
اللغةُ ضيّقة.
هذه الجهودُ كلّها
من أجلِ أن ينجوا من اللّغة،
ويدخلوا عالمَ الصّفات.
باللّطف أنطقُ،
وبالهناء.
مُضيءٌ ومشعٌّ في طيّاتِ نفسي.
كنتُ ماءً
أتقلّب غلياناً
وأستنقِعُ.
إلى أن مسّتْني ريحُ "مولانا"،
فانطلَقَ.
والآن، يجري
جذِلاً،
نضِراً،
هانئاً.
17
سأَل: "كم المسافةُ من العَبدِ إلى الله؟"
قال: "كتِلك التي من اللهِ إلى العَبد".
18
العلمُ أيضاً
حجابٌ كبيرٌ
يغوصُ النّاسُ فيه
كما في بئرٍ
أو خندقٍ
لطيفٌ رقصُ رجالِ الله،
وخفيفٌ
كما لو ورقةٌ تسير على وجهِ الماء؛
القلوبُ، جبالٌ
والقوالبُ كالقشّ.
هناك من يتلُونَ آيةَ الكرسيِّ
على المُضنى
وهناك
مَن هُم آيةُ الكرسيّ.
يقولُ الصوفيُّ الأكبرُ لمريدِه:
"فليَخرُجِ الذّكرُ من سُرّتك!"
قلتُ: "الذّكرُ، لا تُخرِجْه من السُّرّةِ،
بل من ثنايا الرّوحِ!".
الكتابةُ،
تلك لم تكنْ عادتي أبداً.
الكلامُ
يبقى فيّ
إذْ لا أكتبُه؛
يهبُني كلَّ لحظةٍ
وَجهاً آخر.
يمرّ وقت طويل وبعيد
حتى يلتقي اثنانِ مِثلنا؛
ظاهرانِ، أشدّ الظهورِ
وخفيّانِ، أشدَّ الخفاء.
يا لَلنّزهات التي كانت لكَ
في العالَم
معنا،
وتكون.
تعالَ، قلْ أيّ نزهاتٍ قضيتَها
هناك؟
ومن الحديثِ ما لا أقوى على قولِه.
لم أقُل
إلا
ثُلثاً.
مِن عالَم المعنى
خرجَ "ألِفٌ".
من فَهمَ ذلك الألفَ،
فَهمَ الكلَّ،
ومن لم يَفهمْهُ،
لم يفهمْ بتاتاً.
وإنْ بعد ألف عامٍ
سوف يصل هذا الكلامُ
إلى مَن أشاء.
وللبعضِ
لا أرى أملاً
أفضلَ من أنْ
يستيقظوا
قبلَ النّدم.
سعيدٌ أنا
سعيدٌ
ومن فرطِ السّعادةِ
لا يسعُني العالَمُ هذا
وذاك.
كان قد كُتب على قبرٍ:
"ما كان العمرُ،
إلا الساعةَ ذي".
تعليقات
إرسال تعليق