القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث الموضوعات [LastPost]

الشعر في الفضاء الاحتمالي/ د. وليد الخشاب / بيت النص


الشعر في الفضاء الاحتمالي: 

كلام الفنان و"اكتساب الشعر" ومفهوم الوحي الإبداعي

د. وليد الخشاب 


الشعر في الفضاء الاحتمالي- د. وليد الخشاب - بيت النص



يتفاعل الشعر العربي الآن مع القارئ في إطار انقلاب في شكل التواصل بين المبدع والمتلقي، نتيجة التغيرات التكنولوجية الحاسمة التي يعيشها العالم منذ أن تسيَدَت شبكةُ المعلومات الإنترنت فضاءَ الثقافة والإعلام تدريجياً، منذ نهاية القرن الماضي. فالشعر أكثر نوع فني قد تأثر بتراجع دور الكتاب المطبوع، وغدا من الصعب على الشاعر أن ينشر ديوانه -إلا إن ساهم في نفقات الطبع، أو طبعه على نفقته. وصارت منصات التواصل الاجتماعي أو المواقع الإلكترونية المنفذ الأساسي للتواصل بين الشاعر وقارئه -حتى وإن طبع الشاعر ديواناً ورقياً- إلى درجة أن الفضاء الاحتمالي بات ساحةً لبعض الأنواع الشعرية الجديدة التي نشأت من رحم الوسائط والمنصات الافتراضية المعاصرة.
يفتح تأمل الشعر "الإلكتروني" المنشور بالفضاء الافتراضي أبواباً جديدة لفهم ماهية الشعر من زاوية تواكب تغيرات العصر التكنولوجية والثقافية، ولدراسة الآثار البالغة التي خلفها التطور التقني على إنتاج الكلمة الأدبية، لا سيما في قالب القصيدة. أولاً، يعود بنا الشعر في العصر الإلكتروني وزمان وفضاء شبكة المعلومات إلى ظروف عصور قديمة لا تقتصر فيها عملية إبداع الشعر على نشاط ملكة خاصة للناطق/الشاعر، بل تضم عنصر العلاقة بين الناطق ومحيط أوسع، أو كيان أعظم منه يستلهمه و"يكتسب" منه الكلمات التي يصوغها شعراً. كان الشعر في العصور الكلاسيكية العربية والإغريقية وليد تواصل بين شيطان الشعر والشاعر. هو اليوم وليد تفاعل الشاعر مع دائرة الإنترنت المشحونة بالمعلومات والكلمات وكأنها معرفة لانهائية. وثانياً، تأثرت القصيدة المعاصرة بطبيعة وسيط الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعية عليه، وسيولة مفهوم المؤلف، الذي صار "مُرَكِبَ" الكلمات بعضها إلى جانب بعض -حتى لو لم تكن كلها من تأليفه- بحيث صارت أحيانا في منطقة رمادية بين التأليف والاقتباس والاستلهام.

الإبداع الدائم والإلهام الوقتي:

على صعيد نظرية الإبداع، في عصر الفضاء الاحتمالي والشعر الإلكتروني -أي الشعر المنتج والمنشور عبر وسائط إلكترونية مثل الحاسوب وشبكة المعلومات، النت- يتفصل تصور جديد لفكرة الإلهام/الوحي. في ثقافة العرب الكلاسيكية، كان مصدر الشعر إلهاما من شيطان الشعر، وهي فكرة قريبة من التصور الإغريقي القديم. مع تثبت الإسلام، ساد فهم الإلهام الشعري بوصفه نتاج قريحة الشاعر، بينما اقتصر مفهوم الوحي على كلام الله المتجلي في كتابه، وفي الحالين صار فهم الكلام، من حيث هو كلام، مرتبطاً بقدرة الله الواسعة وإحاطته بكل شيء. فهو سبحانه خالق كل شيء، ثم "يكتسب" المتكلم قيمة عمله واستخدامه للكلام للغاية الأخلاقية أو غير الأخلاقية التي يوجهه نحوها. فإن قال المتكلم/الشاعر شعراً سعى به في الخير، فهو شعر خَيِر، وإن حاد بكلامه شعرا عن طريق الخير، حَقَ عليه اللوم الأخلاقي.

ما زال ذلك المفهوم صالحا لفهم القيمة الأخلاقية للشعر اليوم، مع عودة الوعي التقني الحديث بإمكانات الفضاء الافتراضي التي تذكر القارئ بقدرة الله. فالبريد الإلكتروني الذي قرَبَ بين الناس من أدنى الأرض إلى أقصاها يذكر المتأمل بقدرة الله على أن يجعل الناس "شعوباً وقبائل لتعارفوا"، ويوحي للمتدبر بأن ذلك الوسيط التقني الحديث يتمثل قدرة الله السميع العليم، لأن البريد الإلكتروني يحفظ أسرار القلوب ويذكرنا إذاً بوجود ذات أعلى هي عليمة بذات الصدور. ولأن الفضاء الاحتمالي حامل لقسم كبير من معارف البشرية، فهو يذكرنا بأن فوقه ذات إلهية هي فوق كل ذي علم عليم. كذلك في مجال الشعر على الفضاء الإلكتروني: يمكن فهمه بوصفه إنتاج ذات مبدعة، لكنها ذات تتفاعل مع أشعار العالم المتاحة على النت، وبالتالي هي متأثرة بالإلهام الشخصي من ناحية، وبما يُوَحى إليها من جماع إنتاجات شعر البشرية المتاح على شبكة الإنترنت، من ناحية أخرى.
أفاض باحثون كُثُر في تأسيس نظرية الوحي في الثقافات العربية في عالم الإبداع، استناداً إلى التصورات التراثية الإغريقية والعربية عن علاقة الناطق المتمايز (الشاعر، العراف، النبي على سبيل المثال) بدائرة ما وراء الطبيعة. عند قدماء الإغريق، كان الشعر همس الآلهة في روع بشر موهوبين مثل الشعراء والمنشدين. وعند العرب قبل الإسلام، كان الشعر إلهاماً من الجن يُلْقى في نفس الشاعر. ولعل هذا التصور هو الذي تمثلته النصوص المؤسسة للإسلام عندما ميزت بين الهداية التي ينتجها الوحي، وسيط نزول القرآن على الرسول النبي، والغواية التي تترتب على الشعر (والمضمر أن الشعر وليد همس الجن، أو وسوسة الشياطين -وهو تصور قريب من تصور قدماء الإغريق عن الشياطين الخفية، أو الجن).

في العصر الحديث، تحول مفهوم النظرية الفنية من تصور مصدر الشعر في دائرة الغيب والجن اللامرئي، إلى تصوره باعتباره وليد الإلهام الذي هو وحي من ذات الشاعر ذاته، أو ملكة من ملكات عقله ووجدانه يترجمها يده ولسانه إلى كلمات، واصطلح على تسمية تلك العملية بالإبداع. لكن المرحلة المعاصرة هي مرحلة الفضاء الافتراضي والكتابة الإليكترونية، أي أن الكتابة الآن تتجسد على وسائط إلكترونية مثل وسائل التواصل الاجتماعي أو البريد الإليكتروني. اليوم تتشكل نظرية جديدة للإبداع تتراسل مع الظروف التي شكلت نظريات قديمة للإبداع، لاسيما من حيث تصورها لعلاقة وثيقة بين دائرة غيبية كمصدر للإلهام والمعرفة الفنية وبين الناطق/الشاعر. قديماً كان الشعر مستوحى من الجن ويتجسد على شفاه الشاعر. اليوم، يدخل في منظومة استيحاء الشاعر للشعر تفاعله مع الفضاء الافتراضي المحمل بصفات الإحاطة بالعلم وبالكلمات، وكأن ذلك الفضاء جزء من دائرة غيبية. 

تعليقات