التوقيع في دفتر الجحيم
غادرنا المدينة. غادرنا الماكينات. غادرنا الموظفين والدفاتر. وأقمنا في الضواحي. عُدنا إلى الطبيعة. بعد أن غادرناها على عتبات المراهقة عُدنا إليها. وبعد أن بلغنا الحلم على الأرصفة العقلانية، تحت حديد الزهر، والزجاج يعكس السماء على واجهة البنك. زبد القهوة الإيطالية فوّار كالصابون. حليبها لا يحمل زَنَخ الضروع مبستر من كل سوء. جئنا إلى هناك من قُرى بعيدة. نائية في الأحلام قبل أن نستيقظ. كنّا في تلك القرى نحلم بالميلاد حلمًا داخل الحلم. نحلم بالحرب. بأن تغلق المدرسة إلى أجل غير مسمى. بأبٍ يُصلح سيارته في جراج للقطاع العام. وبأم عالق ثوبها بالماضي. بالحلم الأول نعود إليه من الحلم الثاني. وها نحن نترك كل هذا لنعود إلى الطبيعة ونحاول إيهام روحنا أن الحلم انقشع مرتين، فتقشّرت البيضة عن طبقة وسطى نظيفة الأظافر. وبيت على أطراف الحقول أنيق.
يسير ابن آدم على البسيطة في خط مستقيم، والأفق أمامه. يُصلي ويشكر نعمة الأنفاس والروتين والتكرار. و“يحصي عمره بملاعق القهوة” وبأنابيب معجون الأسنان، وبأرغفة الخبز التي تنفد كلّما اشتراها. ويقول هذا من فضل ربي، رزقنا نعمة التكرار لنتأملَ في حكمة الضجر. عندها تظهر الحيّةُ وتُلهمه أن يترك أفيون الحياة ليجرِّب حشيشة المعرفة. ومع أول نفس سيتصدّع الغلاف كما سقطت ورقة التوت عن عورة أبيه. حديد الزهر بزواياه المستقيمة يسيل في خرير زئبقي، وسقف السوق ظهرُ جملٍ أعرج. الملك نائم على البحيرة والفيل إلى الجوار. وشيخ أصم لا يسمع أسئلة التلميذ فيبتسم له عاجزًا عن قراءة حركة شفتيه. ليأتي النادل بفاتورة الحساب، فيتحسس ابن آدم محفظته، ويخرج بطاقة ائتمان تعود لقرون خلت. فيقول النادل: ما عُدنا نقبل بهذه العملات على موائدنا. عليك أن تدفع بسنوات من عمرك.
هنا السجن الفخيم. قصر من قصور السلاطين، كلّ غرفه متاحة. تكييف الهواء يبدأ بنفحةٍ من ريح البرتقال ثم ينام صوته ويشفُّ البساط عن أرضية من زجاج تتهادى تحتها أمواج بحر ساج. سلب أحدهم تلك الأعمدة من معابد رخامية يعرّق بياضها سجحات من أبنوس أسود. وعلى الأريكة تنتظر إحدى الأميرات متكئة على جانبها بساق ممدودة وأخرى تحت فخذها. تدعو ابن آدم لمنازلة على رقعة الشطرنج. لو هزمها ستتركه يضاجعها، ولو هزمته سيضاجعها أيضًا. وبعد أن يفرغ من الفاكهة والتدخين لا يستطيع أن يمنع نفسه من تخيل إسماعيل يس يضاجع الخادمة المليحة على طاولة المليونير، ثم يمسح عضوه في فوطةٍ صفراء ويرفع بنطال بيجامته، وإذ يهمُّ بالانصراف تتشبث به وتغني: “هتروح فين وتسيبني لوحدي أغسل حلل البيت بدموعي.. وأطبخ على نار شوقي ووجدي والقهوة أعملها على ضلوعي.”
قيل إن سليمان ملك اليهود ابتنى لبلقيس ملكة سبأ قصرًا مماثلا في أرضيته الزجاجية على جرف طبشوري يطلّ على بحر يافا. وأتى له آصف بن برخيا الذي يعلم اسم الله الأعظم بعرشها من مأرب قبل أن يلتفت. وإذ وصلت اليمنية الحسناء ودخلت القاعة هالتها الأرضية الشفّافة التي تتلاطم تحتها الأمواج فظنّت نفسها تسير على الماء ورفعت رداءها خشية البلل، فأنشد الملك يقول: “ما أجمل رجليك بالنعلين يا بنت الكريم دوائر فخذيك مثل الحلي صنعة يد صنّاع.” لكن معماريّنا كان خياله يفوق في شطحه خيال معماري سليمان، ففي الغرفة المجاورة لغرفة الأميرة التي تنام الآن وهواء المكيف يداعب شعرها كل هنيهة بزخِّة من أريج البرتقال، وحيث كانت تُتلى الحكايات عن التبابعة وذي الشناتير وأخدود النصارى، ينفرج الباب ليعبر ابن آدم يريح جسده من عناق المهزومة الظافرة في غرفة تحت أرضيتها الزجاجية هرم زجاجي مقلوب قمته تطعن الأعماق وقاعدته أرضية الغرفة، ضلعان من أضلاعه مرآوان يعكسان حركة الأعماق في تقاطعات شعاعية تُزيغ الأبصار بتداخل حركة الكائنات. وهاك هذه. وأزيدك من الشعر بيتًا فأحكي عن السقف المرآوي بدوره تنعكس عليه كل الخزعبلات التي تدور في شفافية الأرضية فترى قناديل البحر تحلّق فوقك كمظلات تنغلق وتنفتح بالبطيء وجسدك ممدد عاريًا بين أزرقين. أسراب السمك الملون تتجه يسارًا من حيث هي آتية من اليسار والعكس بالعكس. يبلغ الشطط مداه فيحنّ صاحبنا لحديد الزهر وجريدة الأهرام وبطاقات الائتمان التي تسحب على المكشوف من ميزانية العالم.
قال الشهيد ملك الهزل: “جئت مصطحبًا سكرتيرتي الحسناء والوحش البشع.” وكان ابن آدم يحاول في أيامه الطويلة أن يجد لنفسه عملا في الحبس، فتارة يكتب مذكراته، وتارة يحاول إضفاء معنى على الحياة، وتارة ينشئ شركة للتأمين ويبيع البوالص للأميرات والجواري ويقبض نقوده من أوراق اللعب، لكن ملك الهزل لا يحبّ لك أن تمثّل وقت تمثيلك أنّك تعيش. إدخال الهزل في الهزل سيُنتج جدّا كضرب سالبين. ولدى الباب قال له ابن آدم: لا بد أنّ الوحش البشع هو كلّ ما رأيته في ماضي الأيام! قال له “يا عزيزي تلك كانت سكرتيرتي الحسناء، الوحش لا يزال خلفي.” انزل درجةً أخرى تراه.
تحت الطريق طريق مواز. البسيطة لا تزال لكن ما من أفق. نحن في بدروم البسيطة. يحكون أن ثمة مَخرَجا يُفتح على عمق النهر. ذابت الهياكل. هنا رماد. هنا وادي الرماد، يقول صديقي وقد تركته يهذي بجوار مزلقان دجلة. لم أره منذ انقلبت الألفية واصطدم البرجان بطائرتين وقيل لم يصطدم الپنتاجون بالثالثة وإنه بريء من ذلك براءته من إسقاط الطائرة الرابعه في بنسلفانيا. طار الضبعُ الأرقط وقرر صديقي السفرَ إلى جنوب إنجلترا ليطوف بشيوخ وعجائز على كراسٍ متحركة في أروقة المستشفيات. يتذكَّر تداعي قبة صرغتمش والقمامةَ تحترق تحت ضريح ابن عطاء الله السكندري فيقول حازمًا حقائبه: “بإمكان الإنسان أن يحيا دون آثار إسلامية…”
الجسر القديم كان يعبره كعاشق رومانسي من خمسينيات القرن في ثمانينيات القرن نفسه مُرحِّلا ثلاثين عامًا إلى الوراء. يعبرُ ويتخيّلها تعبر من هنا، ويقتفي آثارَها تطير خلف اليمامات. ليقف تحت شرفتها تنقصه قيثارة لاتينية صغيرة ليعزف سيرينادا مصرية مكسورة الوزن. وفي لحظة شفق حمراء أثناء العبور الوادع، وإذ كانت الشمس تغرب خلف أبراج عثمان على أطراف نيل المعادي لتغطسَ في حقول الجيزة، استحال الجسر بحديده إلى مقصلة هبط نصلها على يافوخه أبقاه حيًا بشج في القرص الصلب. وكلما هبطت الشمس خلف أي أبراج، انفتح الشجُّ بئرًا تعوي في ليلها الذئاب.
رأى نفسه منخرطًا في مؤامرة ضد نفسه، فاعلا فيها كعازف الروك ذاك الذي ساقوه مكبّلا في سيارة ليموزين نحو الاستعراض المعلَّب. في مكان آخر سيرتدي سترةً في لون الكمّون أو الخراء لا يهم، فما تفرِّقه الرائحة يُجَمِّعه الطيف الذميم، والانتحار يبدأ عندما ترتدي ملابس ليست على هواك. ثم صار موظفًا في رأسمالية الهوامش الفقيرة. نقع كفاءاته واحتسى ماءَها مع مكعبات الثلج، ثم شنق نفسه بربطة عنق مزخرفة وبدلة زرقاء. بين قواطع من الخشب المطبوخ والزجاج عُلِّبَت الأيام. خمسة على سبعة في ثمانية في أربعة في دزينة من شهور الله. حسابك يزداد في البنك يا حبيبي لكن بمقدار ما يزداد حساب عامل مقهى في الشمال. أنت رخيص بربطة عنقك وبلقب مستر وبالكلمات الإنجليزية ترصِّع بها كلامك اليومي. لم ينته البئر ولم ينضب. يوما، وبسبب كذبة صغيرة، كخيط يثقل كفة الميزان عوضًا عن البعير وقشته، سينهار التوازن، ويخرج عاريًا في نادٍ للبرجوازية العالمية. حينها لن يسعفه معجم الكوربوريت السريع، ولا ربطة عنقه تستريح على كتفه في استراحة القهوة.
فأر من البلاستيك والفراء الاصطناعي، صغير ورمادي كالحقيقي بذيله الدبق. كيف اندس بين الألعاب في عالمها الدقيق. وسط سيارات علب الثقاب، وأدوات ميكانيكية لعامل صغير، وقطع ليجو حمراء وزرقاء. لا فائدة، فقد تسلل الاشمئزاز ليلعب عند قدميك في الليل. ثم لتراه بعد ذلك في مسلسل كرتوني رديء يحاكي ميكي ماوس. الفأر استطال نسخةً مشوّهةً عن نتاج أكثر أصحاب الخيال مرضًا. يشغِّلون لك الطاحونة التي لا تعمل إلا بإراقة دم طفل، وأنت الطفل، ولكن ما من طاحونة ولا دماء؛ فقط فأر صغير يختبيء بين الألعاب، ويلعب عند قدميك كمنشار يجزُّ زجاجًا، عند الكاحل، وكعب أخيل.. وتقبض أنت على الشظايا ردعًا للفرح.
نذهب لنصنع القهوة، كلانا. المطبخ قبو بآنابيب يصعد البخار من أفرانها تدفئةً للبيت. هنا، في أزمنة أخرى، كان الخدم يتناسلون ويأكلون ويموتون في طاعة السادة. والآن دالت دولة سادة ذاك الزمان، وسكن البيت بوهيميون يحتلون طابق الخدم، وسادة جدد يحتلون، كالعادة، طابق السادة الأقدم. النفق طويل حتى الموقد والنار زرقاء. تلتهب الضفيرة ببطء فتعرّق الأصابع وترتعش الشفاه. تغوص الأقدام الأربعة في طمي ناعم يسحب الجسدين إلى السرير. فتفور كنكة القهوة تُطفئ النارَ.
الأرملة السوداء قطةٌ تخمش ذَكَرَها بعد مضاجعة رائعة. فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ هناك أثمان لم تُسدّد في عصور غابرة. حقوق أهدرها الغياب في حقول الصيد، حين عَكَفَت بهيكل عظمي لسمكة شبار تمشّط لبدتها اللبؤة المحاربة، ولم تكن أسطورة المغازل اليونانية قد حيكت بعد، حول المنتظرات شوقًا. لكنّ اللبؤات كانت لهن لِبدات صغيرة في تلك العصور، كذكورهن الصيّادة تهزّ ذيولها في الشمس.
قميصه في المطبخ. نظّارتها على الأرض. الستائر بيضاء بشريط أزرق رفيع. والنافذة تطلّ على ذلك الميدان الغارق دائما في ضوء نهار بارد شمسه قمر لا يغيب. نهار من نترات الفضة. يُسخِّنان القهوة على موجات متناهية الصغر. أن تأتي متأخرًا أفضل من ألّا تأتي على الإطلاق، وأفضل من أن تأتي مبكرًا في بعض الأحيان. فبأي آلاء ربكما تكذبان…
*الاقتباسات بين علامتي التنصيص لتوماس إليوت وأبو السعود الإبياري والنبي سليمان وجيم هنسون وهشام جاب الله، على الترتيب.
تعليقات
إرسال تعليق