قصائد من ديوان "في مطعم الوجود"
باسم المرعبي
قطار مُضاء
الوجود نوعٌ من قطار مُضاء، يمضي على سكة الليل، والمسافر فيه لا يكلّ
عن التنقل بين عرباته.
لا وصول لهذا القطار
ولا توقف
وبين حين وآخر يزدحم بمسافرين جدد
كأنهم ينبثقون من الفراغ.
قطار مُضاء على سكة الليل
ركّابه وحدهم المرئيون
وهم لا يرون شيئاً خارجه،
لا يعرفون وجهته
ولا يحقّ لهم السؤال
وحتى معرفة الجواب غير مجدية
كلّ ما يعرفونه
أنهم تآلفوا مع وجودهم الغامض
في قطار غامض
في رحلة غامضة.
سبيل الشعر
ـ إلى أمجد ناصر ـ
في طريق سريع، يخترق برّية نائية، كنتُ. لا أعرف كيف
تواجدتُ هناك؟ كان الوقتُ لحظةً مُحيّرَة بين الليل ومشارف الفجر.. تقترب شاحنة،
تتوقف، ينزل رجل منها، يحمل كتاباً سميكاً، تبيّنتُ لاحقاً أنه كتاب أنطولوجي
للشعر. يتلو عليّ جُمَلاً، مدارها.. النجم، الريح. ثمة جملة واضحة، بقيتْ تتردّد:
كنجم تتجاذبه الريح. هي ليست لأحد. (أهكذا يكون طريق الشعر؟) لم أتعرّف على الشاعر
الذي نَسبَ الغريبُ الكلمات إليه، رغم أنه لوّح بِاسمه ذي الوقع الأجنبي. سألني،
لكنه لم ينتظر الإجابة. أغلق الكتاب واستقلّ شاحنته ومضى. ابتعدتُ بدوري وأخذتُ
أردّد ما أحفظ من كلمات تُشبه الشعر في طريق، قفر، منعزل. لم أسأل إن كان يسمعني
أحد، وما بدا الأمر يهمّ أحداً في ذلك الطريق السريع، وكان يطلُّ سالكوه، خطْفاً،
بين آنٍ وآخر، من نوافذ سياراتهم، على رجل وحيد غريب، في مكان غريب، بدا أنه يكلّم
نفسه، مكشوفاً بضوء الفجر. (أذلك هو سبيل الشعر؟).
الحرب ثانيةً
استفاق الجندي القتيل في حرب سابقة، عندما
سقطت قذيفة مدفع قرب قبره.
حين نظر إلى الغبار المتصاعد مختلطاً بالدخان
وشواهد القبور القريبة منه مهدمة، وشظايا
العظام مبعثرة. أيقن أنها الحرب ثانيةً.
أخذ يفكر بالابتعاد بحثاً عن قبر بعيد لا
تطاله القذائف.
سجين
السجين الذي لم يرَ سوى وجه سجّانه،
من سنين
كان مطلبه عندما فُتحَ له الباب
إلى الحرية
مرآة!
الشبح القارئ
لاحظت تكرّر مرور نسمات بالكاد تُلحظ قريباً من وجهي وبلطف ظاهر، رغم أنّ
الوقت شتاء، وإني أجلس في غرفة مغلقة، أي ليس ثمة مكيّفات تبريد أو مراوح، لينتابني
الشك حول مصدر النسمات هذه.
كان يحدث ذلك مع كل جلسة للقراءة. عندها أدركت أن شبحاً ما مولعاً بالقراءة يشاركني مطالعة الكتاب ذاته، وبهذه النسمات يعبّر لي عن امتنانه.
مدن
الخيال
سافرتُ إلى مدن
كثيرة كنت قد كتبت عنها. ولطالما جلست في مقاهيها مستمتعاً بالتدخين تحت شمس
الشتاء النديّة، واستعادة ذكريات عن مدن اختفت إلى الأبد. مدن لطالما سرتُ في
شوارعها، وسُررتُ مفتوناً بسحر نسائها. متعجباً من ابتهاج سكّانها الدائم. مدن لا يمكن عدّها بمشاهدها العصية على الوصف لروعتها، غير أني لم أجد
أجمل وأرحب من المدن التي أنشأتها على الورق، ولم يكن لها من وجود أصلاً.
كلّ
هذه الأصياف صنعتْ جسدك
كلّ هذه الأصياف تضافرتْ
على تدوير فاكهةِ جسدك
كلّ هذه الأصياف بشموسها
وأمطارها باخضرارها ولهَبها،
باصطفاق أجنحة الطيورالتي
عبرت سماواتها
بصيحات هذه الطيور
بالهواء الذي تخلل
أغصانَ الشجر
بالنحل الذي كان يحلو له
أن يضيع بين روائح
الأزهار
بالغيوم التي قطّرتْ
حليبها،
وتشرّدت في علوّها
باستغاثات البراعم حين تفتّقت
صنيعة الأمطار، أنت،
والشمس والزهور
تستلقين ملفوفةً بغلالة
القمر
تعليقات
إرسال تعليق