القائمة الرئيسية

الصفحات

الحَضْرَة
الصعودُ على الأسد المجنَّح .. والسقوط فى المياه السوداء

كريم عبد السلام


الحضرة - كريم عبد السلام - بيت النص


 
طيورٌ خضراءُ بحجم البجع، ترفرفُ فى صَحْنِ الجامع على دقّات قلوبِ الذاكرين، ووراءَ كلِّ ذاكرٍ طائرٌ ينشر بجناحيه عطورًا لم نَعْهَدها، تَشْرَحُ الصدرَ وتمنحُ السعادة وتُطلق اللسانَ، والرؤيةُ تنفتح عن دَرَجٍ من الرخام الوردىّ، وصوتٌ يَحُثّنا: اصعدوا أيها الذاكرون.. اصعدوا حتى تلتقوا بأنفسكم وتلتئمَ أرواحُكم
الله .. حى
قدماى على الدَّرَجِ الوردىّ، كلُّ طبقةٍ من عشر سُلمات، كلما انتهيتُ من طبقةٍ، تنفتح أمامى طبقةٌ جديدةٌ، حتى أصبحتْ قبةُ الجامع الخضراءُ بعيدةً تحتَنا، ولا تَرى العينُ مسندًا تتّكِئ عليه، إنْ هىَ إلا درجاتٌ بعد درجاتٍ، والسحابُ من حولنا، والذاكرون يصعدون، ووراء كلِّ ذاكرٍ طائرُه المرفرفُ، يحميه ويُرشده، إلا أنا، قلبى امتلأ بالخوف وتعثرتُ وتوقّفَ لسانى عن الذّكْر، وامتلأ صدرى بكيف أهبطُ.. كيف أهبط وطلبتْ قدماى الأرضَ، فسقطتُ فى مكانى مهزومًا من التعب والخوف..
الله .. حى
كأنى رأيتُ الذاكرين يضحكون علىَّ ويُشيرون نحوى وهم فى الأعالى: قلبُكَ مملوءٌ بالقشَّ والسُخامِ والهمومِ، قلبكَ مشغولٌ بصراعاتِ الضّباعِ والكلاب وأنواع القمامة الرائجة وتصاغرتُ أمام نفسى، وإذا برجُل مهيبٍ على أسدٍ بجناحين يهبط أمامى: اذْكرِ اللهَ ولا تنظر إِلى شاهدى بِعينِ الاضطرابِ، وإِلى أوقاتى بِعينِ الاغترابِ، مولاى "الجُنيد" يُقرئك السلام، وهذا خادمُه "قسورة"، وأشار إلى الأسد الأسود ذى الجناحين الذهبيين وكان يدور حولنا وأنا أتلفتُ خائفًا، وأفكر فى الذاكرين الذين سبقونى صعودًا، وإذا به يقودنى نحو الأسدِ المجنّح وهو يتمتم: "خَلْقٌ كثيرٌ يمشون على الماء لا قيمة لهم عند الله، وما دام العبدُ يظنّ أنَّ فى الناس من هو شرٌ منه فهو متكبرٌ"، ونشر الأسدُ جناحيه طائرًا حتى سبق جميع الذاكرين وأبو يزيدٍ البسطامى صاعدٌ حَذْوَ جناحيه دون جهدٍ أو حركةٍ، حتى إذا ظهر رجُلٌ على الدَّرَج مرددًا: "الإحسانَ.. الإحسانَ"، توقف الأسدُ وأخذ يتمسح بقدمى الرجل فعرفت أنه "الجُنيد" ولم أجد كلامًا، هو من تكلم واضعًا كفه اليمنى على رأسى: "المُحبُّ عبدٌ متصلٌ بذكر ربه، أحرق قلبَه أنوارُ هيبته، وصفا شرابُه من كأس مودته، وانكشف له الحياءُ من أستار غيبه".
الله .. حى
وظللتُ فى مكانى أذكر الله، حتى لحق بى بعضُ الذاكرين وقد أنهكهم التعبُ، فارتموا على الدرجات من حولى وهم ينظرون إلىَّ بعين الإعجاب والعَجَب، كيف وصلتَ إلى ما وصلتَ إليه؟ كنتَ متعثرًا مشغولًا منذ قليل والآن حاضرٌ بكامل قلبكَ وروحكَ، أخبِرْنا عن حالك، وظنوا أن مكانى نهايةُ المطاف، فتحلقوا حولى يرجوننى: ادْعُ لنا يا مولانا، أنت صاحبُ كرامة، ففرحتُ جدًا وشمختُ برأسى داعيًا لهم، لكنّ قدمى زلّت ووجدتُنى أتهاوى ودعائى ينقطع وكأنما أغرقُ فى ماءٍ أسودَ لا يراه أحدٌ سواى..
الله .. حى
وإذا بيدٍ تقبض على عُنقى وترفعنى من الماء الأسود لآخذَ شهيقًا بعد أن كادت روحى تذهب، والتفتُّ نحو من انتشلنى فوجدت رجلًا على رأسه عمامةٌ خضراء مكتوب عليها بحروف مضيئة "العارف بالله إبراهيم الدسوقى"، وظهر على لسانى كلامُ شكرٍ، لكنه بادرنى ليسكتَنى: لو خشع قلبُكَ يا ولدى ما فرح، إن الله لا يحب الفرحين، واعلم أنك إن رأيت فهو الذى أراك، ليس لك فى الأمر من شيء، فخجلتُ من نفسى ولم أجد فى قلبى إلا: "يا مُعينَ الضَنى عليَّ.. أَعِنّى على الضَنى"..
الله .. حى
عُدنا إلى صحن الجامع، والطيور الخضراء تغادر فتخترق الجدرانَ لا يعوقها حجرٌ أو حديد، والذاكرون يتصببون عرقًا، منهم من صمدَ فى مكانه ومنهم من أُغشىَ عليه ومنهم من اختفى، أما من بقى يلهج بذكر الله فقد طاف عليهم مَن يسقيهم ماء باردًا بالعسل، وسمعتُ النداءَ فى قلبى..
"لا تنشغلْ بغيركَ يا مسكين "
الله .. حى
قد يعجبك ايضا

تعليقات